نقولا ناصيف
بين خطابه في 31 تشرين الأول وخطابه أمس، لم يغيّر الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله من لهجة التهديد بالنزول إلى الشارع لإسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، ولا عدّل في شروط العرض السياسي البديل،وهو حكومة وحدة وطنية أو انتخابات نيابية مبكرة، ولا قلّل خصوصاً من شكوكه في الأكثرية واتهامها بالتواطؤ على الحزب قبل حرب 12 تموز وبعدها، وقبل إقرار مجلس الوزراء مسودة المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبعده. لم يُوصد أبواب الحوار ولم يصرف النظر عن الاحتكام إلى الشارع، وفي الوقت نفسه جعل موافقة خصومه على أي من شرطيه أمراً مستحيلاً. تبعاً لذلك أضحى الانقسام الداخلي أكثر تعقيداً وبلا آمال حل: لا الغالبية الحاكمة مستعدة بالتراضي للتخلي عن أحد أقوى مصادر قوتها واستمرارها في الحكم، وهو الإمساك بالسلطة التنفيذية، ولا هي تؤيد إجراء انتخابات نيابية مبكرة مفتوحة على مفاجآت. تملك الشارع الذي تهدد به الطرف الآخر وتعرف أيضاً أنه يصير عبئاً على سلطتها، وقد يؤدي إلى تقويضها عوض الدفاع عنها. بدورها، المعارضة باتت أكثر يقيناً من استعجال المواجهة والوصول إلى السلطة من حيث لا تتوقع الغالبية، أي الشارع. والمقصود بذلك ضرب آلة الحكم نهائياً.
يحمل هذا الاعتقاد مسؤولاً بارزاً في المعارضة على القول إن أحداً لا ينتظر سقوط حكومة السنيورة بسبب خيمة في الشارع، في إشارة إلى وجود أكثر من مسرح للتظاهرات أو لضغوط حادة موازية لها من أجل فرض انهيار السلطة المركزية لحكومة الغالبية: في السياسة والشارع والإدارة، ومن داخل المؤسسات الدستورية التي ستكون أصل المفاجآت وأكثرها وقعاً.
على أن خطاب نصر الله أمس رمى إلى توجيه رسائل إلى غالبية يعرف صاحبها أنها سترفضها برمتها:
1 ــ لاقى الرئيس ميشال عون في تأكيده الأسبوع الفائت خيار النزول إلى الشارع لإسقاط حكومة السنيورة. واجتمع الرجلان على خلاصة مفادها أن هذه فقدت شرعيتها الدستورية توطئة لإسقاطها. ويُنتظر في غضون 48 ساعة أن يلاقيهما الوزير السابق سليمان فرنجية في موقف مماثل يؤكد مشاركته هو الآخر وأنصاره وحلفاءه في النزول إلى الشارع، وتعزيز ما أطلقه عون ونصر الله في «لاشرعية» حكومة الأكثرية، الفاقدة دستوريتها.
2 ــ من دون أن يجهر بذلك صراحة، أعلن نصر الله استقالة نهائية وقاطعة للوزراء الشيعة الخمسة من حكومة السنيورة، موصداً الأبواب أمام أي جهد سياسي للعودة عن هذا القرار، وواضعاً في الوقت نفسه حداً أخيراً للذريعة التي كانت قد حملت السنيورة على وصف الوزراء المستقيلين بالمتغيّبين. بذلك لم يكتفِ الأمين العام لـ«حزب الله» بمضاعفة الشكوك في دستورية حكومة باتت خلواً من ممثلي طائفة رئيسية هي الشيعة، بل تبنّى الموقف نفسه الذي قال به الرؤساء إميل لحود ونبيه بري وعون باتهام حكومة الغالبية بأنها فقدت تماماً الشرعية الدستورية التي كانت قد اكتسبتها عند تأليفها في ظلّ التحالف الرباعي، وحازت ثقة مجلس النواب ــ وإن تحت سلطة الغالبية الحالية ــ تبعاً لطبيعة تركيبتها السياسية والطائفية والتمثيلية والقوى التي تحالفت في ظلّها.
يصحّ ذلك أيضاً على رئيسها الذي اختير آنذاك كجزء من بنود التحالف الرباعي، وسمّاه مجلس النواب برقم قياسي هو 126 صوتاً بمن فيهم الذين يطعنون اليوم في رعية حكومته، لم يُعطَ للرئيس الراحل رفيق الحريري في ذروة وصوله إلى السلطة، مذ كُلّف للمنصب للمرة الأولى في تشرين الأول 1992. الأمر الذي يعكس ـــــــ أو يبرّر ــــــــ أحاديث عدة تتواتر بجدية وسرّية في أوساط قوى المعارضة عن أن السنيورة ربما لم يعد، بالنسبة إلى هذا الفريق، الرجل المناسب لترؤس حكومة ما بعد حكومته الحالية.
وقد يكون المنحى الذي بات يسلكه الإصرار على إسقاط حكومة الغالبية في الشارع خير معبّر عن خطورة فراغ سياسي تتوقعه أوساط بارزة في المعارضة ينشأ في المدة الفاصلة ما بين انهيار حكومة الغالبية وتأليف حكومة جديدة تكون صورة مطابقة لتوازن قوى سياسي داخلي جديد. وكما رمى رئيس المجلس من طهران يمين الطلاق على الغالبية الحاكمة، أجرى نصر الله البارحة مراسم هذا الطلاق وقطع آخر صلة اتصال بها.
3 ـــــ إن مخاطبة نصر الله 2200 شخص هم رؤساء اللجان المنظمة للتظاهرات، عكست جدية تهديده باللجوء إلى الشارع. لم يكتفِ بوضع الهدف، وهو إسقاط حكومة الغالبية، بل حدّد الآلية التي ينبغي التعاطي بها حيال القوى الأمنية والطرف الآخر الذي قد يكون في المواجهة في الشارع، وإن أضفى غموضاً على زمان التظاهر ومكانه. والأصحّ في التفاصيل التي أسهب نصر الله في شرحها للحاضرين، أنه وضع لهم ما يشبه نظاماً داخلياً لإدارة تظاهرات ستؤول بالنسبة إلى «حزب الله» وحلفائه إلى انهيار حكومة السنيورة.
4 ـــــــ رسم نصر الله خريطة سياسية جديدة للتجاذب السياسي الداخلي بأن وضع، وجهاً لوجه مع الغالبية، بالإضافة إلى حلفائه الحاليين، قوى سياسية كانت قوى 14 آذار قد دعت منذ انتخابات 2005 إلى نبذها بسبب تحالفاتها العميقة مع دمشق. وأكثر من أي وقت مضى لم يكتفِ بتأكيد تحالفه مع رئيس الجمهورية ورئيس المجلس وعون فحسب، بل تكلّم عن فريق آخر في الطائفة السنّية هم خارج الحكم، في إشارة إلى توسيعه مروحة الأفرقاء التي تشملهم صفقة التفاهم على حكومة وحدة وطنية، فلا تقتصر على التيار الوطني الحر ولا الحصول على الثلث زائد واحداً في السلطة التنفيذية.
في واقع الحال بدا نصر الله البارحة كأنه أقرب إلى التحدّث عن إصرار على حصول انتقال للسلطة من عهد إلى آخر، ومن حقبة إلى أخرى. وعلى نحو مماثل لوصول الغالبية الحالية إلى الحكم من طريق الشارع على أثر إسقاط حكومة الرئيس عمر كرامي وانسحاب الجيش السوري من الأراضي اللبنانية والنتائج التي أفضت إليها انتخابات 2005، تستعد المعارضة لما تقول إن الشارع ينبئها بحصوله.
مغزى ذلك كله أن خطاب الأمين العام لـ«حزب الله»، بعد مغادرة رئيس المجلس موقعه الوسيط والمحاور، يستفزّ قوى 14 آذار ويدعوها سلفاً إلى رفض عرضه المزدوج. ولعله يستدرجها إلى ما يقول عنه مسؤول بارز في المعارضة «المعركة الخاسرة في الشارع».