جوزف سماحة
نفترض أن حاجزاً لقوى الأمن الداخلي، أوقف، في واحدة من «الليالي الأمنية»، سيارة تقل شباناً. فتّشها. وجد فيها أسلحة غير مرخّصة. ما العمل؟ هل يمكن الحاجز أن يطبّق القوانين المرعية الإجراء؟ كيف يمكنه أن يفعل ذلك إذا كان في السيارة، إلى جانب الأسلحة، نسخة من عدد الزميلة «السفير» ليوم السبت الماضي أو نسخة من الصحف الصادرة أمس الأحد وفيها تصريحات لوزير الداخلية بالوكالة أحمد فتفت؟ لقد أحدث الوزير، في «ويك اند» واحد ثورة في لبنان لا تقلّ عن إباحة السلاح. سنعود إلى ذلك لاحقاً.
ثمة إجماع على حراجة الوضع اللبناني وحساسيته. اللبنانيون قلقون. المواجهة السياسية حامية وستتصاعد حماوتها. يتطاير الكلام عن الاحتمالات الخطيرة مازجاً التحذير بالتهديد. في مثل هذه الأجواء يصبح مطلوباً فرض رقابة صارمة، رقابة ذاتية، على التصريحات والمواقف. ليس نوع الرقابة الذي يستر التباين ويلغي السجال، لكنه النوع الذي يمتنع عن تجاوز بعض الخطوط ويُسقط مفردات وعبارات من التداول.
ما لاحظناه في الأيام الأخيرة أن اثنين من فريق الأكثرية الحاكمة أدخلا إلى مجال التداول كلمات كان يجب أن تبقى محظورة.
الأول هو النائب أكرم شهيّب. إنه صاحب التصريح الشهير «لن نرد على الرصاصة بوردة». إنه أول تصريح، في هذه الأزمة، ترد فيه كلمة «رصاصة» بما يكسر حاجزاً كان يجب احترامه. إلا أن هذه ليست المشكلة الوحيدة في العبارة. المشكلة الأكبر هي أن النائب لم يبدُ متحدثاً باسم السلطة ولم ينسب احتمال الرد إلى القوى الأمنية. بكلام آخر تحدث مستخدماً مصطلحات عسكرية ومعتبراً أن الرد سيكون رداً أهلياً لا رسمياً.
إذا تطورت الأمور نحو تسوية سيتم تناسي هذا التهديد. لكن إذا حصل أي توتر أمني ذي بعد أهلي فالواجب هو التأريخ بتصريح شهيّب إلى فتح باب الاحتمالات الخطيرة.
يأخذ كلام شهيّب كل معناه مما أدلى به فتفت في اليومين الماضيين. قال:
1 ــ هناك توتر كبير عند الناس وفي هذه المراحل الناس يشترون سلاحاً.
2 ــ إن موضوع السلاح متشعّب جداً وهناك سلاح موجود بين أطراف عديدة. هناك سلاح المقاومة والسلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها... كل هذه الأمور تجعل موضوع سحب السلاح من المواطنين صعباً لأن المواطن سيقول عندئذ لمَ يُسحب السلاح مني بينما بقية الأطراف تملك أسلحة؟
3 ــ إن موضوع سلاح المقاومة وطريقة معالجة الخطة الاستراتيجية اللبنانية والسلاح الفردي كله مرتبط بعضه ببعض.
4 ــ لنقل بكل صراحة إنه إن لم يكن هناك استعمال مباشر للسلاح الموجود مع المقاومة فلا شك في أن لهذا السلاح دوراً، شئنا أو أبينا.
كلام الوزير يثير الرعب. إنه إعلان صريح بتخلّي وزارة الداخلية وأجهزتها عن مسؤولياتها، ودعوة واضحة إلى إبطال قوانين، وتشريع لحمل السلاح. وهكذا لم يعد أي مسلح في حاجة إلى رخصة. يكفيه أن يكون مزوّداً بعدد من صحيفة وأن يشهر كلام الوزير عند كل مساءلة.
كلام الوزير يثير الرعب لأنه يبرّر شراء السلاح بحالة التوتر لا بل يكاد يبشّر بذلك علناً. ثم إن فتفت، إذ يقيم موازنة بين سلاح المقاومة مثلاً وبين السلاح مع المواطنين فإنه يقيم توازياً خطيراً. فالواضح أن ما يقصده ليس السلاح الفردي في مواجهة السلاح الجماعي وإنما السلاح الجماعي مقابل نظيره. صحيح أن دعوات من هذا النوع يمكنها أن تصدر عن قوى سياسية في معرض الإشارة إلى لامساواة ما بين اللبنانيين حيال القانون، لكن أن تصدر هذه التصريحات عن وزير للداخلية بالوكالة فالأمر مختلف.
يذهب الوزير بعيداً عندما يربط بين «معالجة الخطة الاستراتيجية اللبنانية» وبين «السلاح الفردي». لا يسع المراقب أن يدرك كيف أمكنه الجمع بين الأمرين، وكيف تجاوز البيان الوزاري الذي جدّد رئيس كتلته سعد الحريري التمسّك به لجهة الدفاع عن سلاح المقاومة حتى تحقيق المطالب اللبنانية من إسرائيل... إذا كان وزير من الأكثرية يعتقد فعلاً أن «السلاح الفردي» لا يعالج بمعزل عن «الخطة الاستراتيجية» ففي الأمر ما يشي بطريقة في التفكير ترغم اللبنانيين على التأمل جيداً في نوعية القيادة السياسية لبلادهم، وفي مستوى «رجال الدولة» الذين يحكمونهم.
ثم يذهب الوزير أبعد من هذا البعيد عندما يؤكد أن لسلاح المقاومة دوراً داخلياً. هنا يدخل دائرة الوضوح الكامل أي دائرة دعوة اللبنانيين غير المسلحين إلى اقتناء السلاح من أجل الاحتفاظ بالتوازن الداخلي. يلتقي الوزير فتفت هنا مع النائب شهيّب لجهة التلميح إلى البعد الأهلي المسلح في أي نزاع سياسي لبناني ويتناسى الاثنان تماماً أنهما، ولو بتفاوت، يتحدثان من موقع سلطوي أي من موقع يفترض فيه أن يكون مسؤولاً عن الأمن، وعلى مسافة متساوية من المواطنين، وعلى قدر كبير من الاحترام لوثائق رسمية مُلزمة للحكومة في ما يخص علاقتها مع المقاومة.
ماذا يقول الوزير فتفت في الحقيقة؟ إنه يلغي شعاراً مركزياً للقوى السياسية التي تشكل الأكثرية الحاكمة والقائل بـ«حق الدولة في احتكار السلاح». وهو يعلن بذلك الانتقال إلى شعار آخر هو «حق الجميع في امتلاك السلاح بما يلغي نهائياً الحق الاحتكاري للدولة». هذا التطور ليس بسيطاً. وقد لا يكون فتفت واعياً له إلى هذا الحد إلا أنه معبّر عمّا يجول في بعض الرؤوس، وربما عن قرارات يجري تنفيذها.
عندما يقدم وزير الداخلية على تحريض اللبنانيين على التسلّح فإنه لا يلقي شبهة على عمل أجهزته الأمنية فحسب بل يندفع نحو افتعال مساواة بين سلاح لا وظيفة له سوى الحرب الأهلية وسلاح لم تكن له وظيفة سوى الدفاع عن السيادة الوطنية واسترجاع الأرض المحتلة.
كنا نريد أن ننسى فتفت فما باله يذكّرنا بنفسه؟