ابراهيم الأمين
لن يكون بمقدور أحد وضع حد لوقع جريمة اغتيال الوزير بيار الجميل. وكل الخلاف السياسي الذي قام ويقوم سوف يستمر. المعارضة التي كانت تستعد لتحرك شعبي بمواجهة الحكومة الحالية سوف تواجه إرباك اللحظة. لكن الأمر لن يتجاوز حدود التأثر بالمناخ الذي ساد بسبب الجريمة. لكن الاستثمار السياسي الذي ستلجأ إليه قوى السلطة، ولا سيما “القوات اللبنانية” على الصعيد المسيحي، سوف يبقي المعركة مفتوحة، وكل الهدوء الذي يرافق التشييع والتعازي والكلام عن وأد الفتنة لن يلغي الاشتباك السياسي، وإن خفف من حدته، إذ إن جدول أعمال الاشتباك القائم في لبنان هو، للأسف أكبر بكثير من الجريمة التي حصلت.
وإذا كان من الصعب مواجهة النتائج السياسية بخطوات حاسمة الآن، فإن الأمر يعود إلى انقطاع التواصل بين القوى المؤثرة في البلاد، وهي اللحظة الجديدة على الواقع السياسي. ولا يمكن لأحد توقع نتائج حاسمة، وإن رفع فريق السلطة سقف المواجهة إلى حده الأقصى مستفيداً من المناخ العاطفي والسياسي التعبوي الذي قام بعد الجريمة كما جرى سابقاً. كذلك فإن تأثر برامج المعارضة في السعي إلى إسقاط الحكومة لن يأخذ شكل التراجع عن المطلب وإن كان هناك سؤال عن أدوات التحرك من أجل تحقيق هذا المطلب. لكن هل يمكن توقع تنازلات سياسية كبيرة لهذا الفريق أو ذاك؟
في ردود الفعل الأولى، كان سعد الحريري أول من وضع الجريمة في السياق السياسي للمواجهة من باب المحكمة الدولية. أما سمير جعجع فكان أول من سعى إلى تثمير الجريمة. حسم بداية مثل بقية أقطاب السلطة بأن المجرم هو سوريا. ثم اتهم المعارضة بأنها خلقت المناخ المتوتر الذي يتيح ارتكاب مثل هذه الجرائم. وطالب بتعديل جدول الأعمال السياسي ابتداءً من دعوته إلى عودة الوضع الحكومي إلى ما كان عليه قبل استقالة الوزراء الستة. ولم ينس أن يحدد هدفه العاجل كأولوية: إطاحة الرئيس إميل لحود.
لكن إلى جانب الأهداف التي سوف يتكاثر الحديث عنها من منع الانفجار الأهلي، وصولاً إلى استعادة وحدة الحكومة سياسياً، فإن الهدف المركزي الذي سيظهر استغلاله يتصل بالوضع في الشارع المسيحي حيث الأزمة قائمة منذ استعادة القوتين البارزتين أي التيار الوطني الحر و“القوات اللبنانية” حرية الحركة الواسعة سياسياً وتنظيمياً. وحيث تراجع الحضور السياسي للآخرين، بمن فيهم حزب الكتائب قبل وبعد إعادة جمعه على طريقة كريم بقرادوني. حتى إن الخلافات بين هذه القوى ظلت تأخذ أشكالاً متوترة طوال الوقت. خلافات في الجامعات وفي القرى وتوترات سياسية لم يكن آخرها بين سمير جعجع نفسه والوزير الجميل، وتوسط النائب السابق غطاس خوري بينهما على خلفية ما رآه آل الجميل اعتداءً مستمراً من جانب “القوات” على “تراث الحزب وشهدائه ومؤسساته”. علماً بأن التوترات بين الكتائب والتيار الوطني الحر لم تأخذ بعداً قاسياً، وثمة من يعزو الأمر إلى أن العماد ميشال عون كان هو من قرر ترك مقعد ماروني شاغر في لائحة التيار في المتن الشمالي. وسرت أخبار متعددة يومها من القول بأن عون لا يريد لعبة إقفال البيوتات السياسية، إلى أن مقتضيات المعركة الانتخابية فرضت هذه الخطوة إلى غيرها من الأنباء، ومع ذلك فإن الهدوء الذي ساد الساحة المسيحية طوال الفترة اللاحقة لم يكن قائماً على تفاهمات قوية، ثم جاءت الحكومة وتركيبتها المسيحية لتفتح باب السجال على أنواع مختلفة.
وبرغم أن المواجهة احتدمت طوال الوقت على الساحة المسيحية، إلا أن الذروة كانت خلال فترة العدوان الاسرائيلي على لبنان، حين تحول العماد عون وتياره الى هدف مركزي من جانب السلطة بجناحيها المسلم والمسيحي. واستمر الأمر على هذا المنوال رغم أن نتائج الخيار السياسي لعون وتياره خلال الحرب جاءت مخالفة لتوقعات الآخرين وحساباتهم، ومع ذلك فإن مسيحيي السلطة، وعلى رأسهم “القوات اللبنانية”، ظلوا يطلقون النار باتجاه عون وتياره، وهو إطلاق استمر كثيفاً مع محاولة إقناع البطريرك الماروني نصر الله صفير بتغطيته، وهو ما عمل عليه جاهداً من بقي من مجموعة “قرنة شهوان”. ومع ذلك فإن الاختبارات الشعبية والطالبية أظهرت أن كل الضغط لم يجعل من القوى الأخرى منافسة بشكل جدي لنفوذ التيار الذي يقوده العماد عون.
ومع اقتراب البحث في الوضع السياسي العام في البلاد، ولا سيما الملف الحكومي، بدا الملف المسيحي عنواناً رئيسياً لحركة فريق السلطة ولحركة قوى أخرى، ولا سيما الولايات المتحدة وفرنسا. وثمة ضغط جدي جرى في الشارع وفي أمكنة أخرى نحو توتير الوضع على خلفية أن ثمة من يعتقد أن التوتر يؤثر سلباً على شعبية التيار الوطني الحر ونفوذه.
وقبل اغتيال الوزير الجميل وبعده، فإن التحذيرات من احتمال حصول توترات كبيرة في الشارع المسيحي ظلت قائمة. وقبل أسبوعين على الأقل أبدى دبلوماسي عربي بارز ومعني بالوضع اللبناني “خشية كبيرة من انفجار الوضع مسيحياً”. وقال هذا الدبلوماسي لـ“الاخبار” إن المشكلة تكمن في أن القوتين الأبرز داخلياً، أي “حزب الله” وتيار “المستقبل” عندهما من الضوابط والتشعبات ما يكفي لمنع الانفجار. لكن المشكلة تكمن لدى الأطراف الأخرى، ولا سيما لدى “القوات” والتيار الوطني الحر حيث هناك مشكلة في ضبط التداخل على الصعيد الشعبي، أو منع الاحتكاك الذي يمكن أن يتطور بسرعة. حتى ردود الفعل التي جرت أمس والاعتداء على مكاتب للتيار الوطني الحر وعلى لافتات وصور للعماد عون تبيّن أن معظمها تم على يد عناصر من “القوات اللبنانية”، وهو الأمر الذي دفع العماد عون إلى الاتصال فوراً بالبطريرك الماروني صفير وإبلاغه خشيته من سعي البعض إلى إشعال فتنة مسيحية ــــــ مسيحية وأنه يجب العمل بسرعة على منعها. وطلب عون من أنصاره إخلاء المراكز منعاً لأي احتكاك والابتعاد عن التجمعات أو الأمكنة التي قد تتيح للآخرين إشعال مشكلة. ثم أصدر بياناً هادئاً أخرج الموضوع من السجال السياسي المباشر. وهو أمر ترافق مع بحث في تهدئة الشارع، وواكبه الجيش بسلسلة من التدابير التي تخللها تواصل مع قيادتي الكتائب والقوات، وأوصل الأمر مساء أمس إلى بعض الهدوء، من دون تقدير دقيق لما سوف تؤول إليه الأمور.
لكن الأكيد أن ما حصل، وهو أمر كبير جداً، لن يدخل تغييرات جوهرية على المواقف الأساسية لقوى المعارضة التي يقول قطب بارز فيها إن ما حصل “يدفعها إلى البحث الجدي عن سلطة قادرة على ضبط الأمن واكتشاف القتلة إذا تعذر منعهم من ارتكاب جريمتهم”.