قلّة هم الذين لم يسمعوا من الرئيس أمين الجميل طرفته المحبّبة حول ولادة ابنه البكر بيار. كان ذلك في 24 أيلول 1972. بعد أيام خرج كاريكاتور صحافي يعلن الخبر السعيد، راسماً صورة أحد أقطاب السياسة اللبنانية، من المناوئين المزمنين لمؤسس حزب الكتائب اللبنانية، وهو يعلّق: «نحنا ببيار واحد مش مخلّصين!».بعد 12 عاماً رحل بيار الأول، وبعد 34 عاماً رحل بيار الثاني، ولا يزال اللبنانيون، كل اللبنانيين، «مش مخلّصين».
بيار أمين الجميّل، «الجميّل الابن»، أو «الجميّل الشاب»، كثّف زمنه وحياته في 3 عقود ونصف. كأنه كان يدرك كما أمثاله الموعد المبكر وندرة الوقت. كان في السادسة عشرة من عمره حين اضطر والده، بعد 10 أيام على نهاية ولايته الرئاسية، إلى مغادرة لبنان في 3 تشرين الأول 1988. سافر بيار ليكمل دراسته الثانوية في فرنسا، وليعود بعد عامين إلى دراسة الحقوق في جامعة الحكمة، لكن في لبنان مختلف عن الوطن الذي عرفه، وفي متن شمالي لا علاقة له بمتن آل الجميل، وفي مواجهة حزب كتائب لا يعترف ببيار الحفيد ولا هو انتسب إليه.
غير أن 10 أعوام كاملة كانت كافية لتغيير الكثير من تلك الصورة. بدأ بيار نشاطه السياسي والوطني في أصعب الظروف، كتائبياً ومتنياً ومسيحياً ولبنانياً. تدريجاً بدأ الجميل الابن يلملم قواعد العائلة والحزب، بين الوطن والمنفى القسري.
وبدأ يواجه الاستحقاقات المفصلية. عام 1992 تابع مقاطعة القوى المسيحية الانتخابات النيابية، في ظل زيارة خاطفة لوالده إلى «البيت المركزي»، ليعود بعدها الرئيس السابق إلى فرنسا، وليكمل بيار عبوره الصحراوي.
سنة 1996 نزل «جميّلي» آخر إلى الساحة، «ابن العم»، الدكتور بول، كسر صمت العائلة، فحصد أكثر من 10 آلاف صوت منفرداً، كانت كافية لتنبيه أركان العائلة الأساسيين، إلى جهوزية القاعدة من جهة، وإلى عدم جواز الغياب بعد، من جهة أخرى.
بين 1996 و2000 خرج بيار إلى العلن أكثر، صارت حركته أكثر تنظيماً، بين «القاعدة الكتائبية» و«الحركة الإصلاحية الكتائبية»، بين مؤتمر قبرص الذي جمع «المعارضة الكتائبية»، والتنسيق الدائم مع باريس، صارت التحضيرات مكتملة للاستحقاق النيابي الآتي.
بعد انتخاب إميل لحود رئيساً للجمهورية، قيل إن اتصالات نشطت، وخصوصاً بين بتغرين وبكفيا. بعد أشهر قطع الرئيس الجميل تذكرة العودة، لكن نصيحة «رسمية» من أهل السلطة ألغتها. تأجل الموعد أشهراً، كانت حافلة بالتطورات: جلا الاحتلال الإسرائيلي، غاب حافظ الأسد، تحركت الأوضاع اللبنانية على إيقاعات السيادة الكاملة والخروج من الإحباط المسيحي.
وفي ذروة تلك الموجة عاد أمين الجميل بعد 12 عاماً من النفي، ترشّح بيار الجميل منفرداً في دائرة المتن الشمالي، ليصير ثاني أصغر النواب سناً في مجلس الألفين، بعد إميل إميل لحود.
بعد انتخابه دخل بيار إلى «لقاء قرنة شهوان»، وصار أحد أبرز النواب المعارضين لعهد «الوصاية السورية». وخلال فترة قصيرة، صار بيار أحد نجوم الساحة السياسية المسيحية. في مبادراته ومشاكساته، قلّما ترك أحداً «حيادياً» حيال دوره ووجوده ومواقفه. وسريعاً ما تمكّن من إحداث الفرز حول شخصه: إما معه وإما ضده.
لكن النائب الشاب سرعان ما اكتسب خبرة ونضجاً لافتين، فراح يكسر الحواجز المن حوله: خطوط اتصال مع سليمان فرنجية وإلياس المر وآخرين، مع الثبات في الموقع المعارض. لكن لغته ظلت تتسم، حين يريد ويقصد ويوقّت، بالنارية، نارية تزيد من حدّتها بسمة مرافقة، تتراوح بين براءة شابة ودهاء مخضرم.
بعد اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وجد بيار مكانه الطبيعي في «انتفاضة الاستقلال»، رمزاً وركناً. خرج الجيش السوري في 26 نيسان، عاد ميشال عون في 7 أيار، اختلف منفيو الوصاية على انتخابات السيادة، فخاض الجنرال مواجهة المتن الشمالي بلائحة غير مكتملة، أفاد بيار من مقعدها الثامن الشاغر، ليحتفظ بمقعده النيابي. في اليوم التالي اتصل الشيخ أمين بعون مهنئاً بالفوز، فرد الجنرال مهنئاً لبيار أيضاً، قبل أن يضيف قائلاً: «يللي منحبُّن ما أذيناهن». لكن الأذى السياسي كان قد وقع. بعدها تابع بيار مبادراته ومشاكساته، خطا نصف الطريق صوب كريم بقرادوني، فوحد حزب الكتائب، وتفرغ لبناء قواعده الحزبية، في ظل اصطفاف حزبي قاس، وخصوصاً على الساحة المسيحية.
بعد أسابيع اختلف عون مع سعد الدين الحريري على الحكومة المقبلة، خرج «التيار» من التركيبة، فصار بيار وزيراً للصناعة في تموز 2005، حتى 21 تشرين الثاني 2006، لحظة خروجه من كنيسة شفيعة الأمور المستحيلة...
عشيّة ذكرى الاستقلال الثالثة والستين، الاستقلال الذي كان بيار الجميل الجدّ أحد رجاله، سقط بيار الجميل الحفيد شهيداً، مثل قافلة طويلة من عائلته وحزبه والوطن.
ذات مرة، وفي اجتماع مفصلي، تباينت فيه الآراء وانقسمت، تداخل بيار مطوّلاً، ولاقى إجماعاً على رأيه. فقال له مرجع روحي: حضورك يا شيخ بيار مطلوب أكثر، وكلامك أيضاً.
بعد اليوم، قد يخيّب بيار رغبة المرجع، أو على العكس قد يصير حضور شهادته أكثر ملئاً، وكلام صمته أكثر بلاغة.
ج.ع.