نقولا ناصيف
قصة قوى 14 آذار مع الموت أصبحت كقصة آل الجميل معه. أن تكون صنوه من أجل أن تستمر. وهي لا تستمر إلا مضرجة به، أو بثوب الحداد. وعلى غرار عبارة جورج نقاش الذي تحدث يوماً عن زعامات تتوارث العباءات بالموت، ولا تصل إلى السلطة إلا في نعش. حال قوى 14 آذار كحال آل الجميل، لا تلبس عباءة القضية إلا في نعش. آل الجميل إحدى عائلات سياسية لبنانية قليلة إما تحمل ذاكرة الموت أو تعيش في حداد شبه دائم لأنها اعتقدت باستمرار أن الحياة الشجاعة تستحق المجازفة، شأنها شأن آل جنبلاط وفرنجية وكرامي ومعوّض وشمعون والحريري وتويني التي خبرت السياسة بالحداد مرة موجعة لا تنسى. جعل آل الجميل الموت نسيجهم، أو جعل هو منهم مبرراً دائماً لأمثولة ثمن السياسة في لبنان، كأن أحدهما هو صورة مطابقة للآخر.
إنها اليوم أيضاً حال فريق 14 آذار الذي يعجز عن امتحان نفسه من غير أن يضرّجه الآخرون بالدم. بيار أمين الجميل، الثلاثاء الفائت، بعد كل الذين سبقوه.
لكن مغزى ما يمكن أن يرمز إليه الامتحان الجديد لقوى 14 آذار اليوم في ساحة الشهداء، بعد 14 آذار 2005 و14 شباط 2006، أمران على الأقل:
أولهما، تأكيد تمسّك الغالبية الحاكمة بالشرعيتين الدستورية والشعبية اللتين يمثلهما تحالف أحزابها وشخصياتها. وتبعاً لذلك التقى معظم أركانها على تحديد الهدف الرئيسي لاغتيال الجميل، وهو إسقاط حكومة الرئيس فؤاد السنيورة من خلال تعطيل نصاب ثلثي مجلس الوزراء الذي تقبض عليه الغالبية من خلال اغتيال وزير ماروني ينتمي إلى هذه الغالبية أساساً. والواقع أن استشهاد الجميل أربك الحكومة من غير أن يهدّد نصاب الثلثين فيها، مع أنه أضحى الآن 15 وزيراً أصيلاً في انتسابه إلى هذه الغالبية، بمن في ذلك الوزير حسن السبع العائد عن استقالته. علماً بأن الوزراء الثلاثة الآخرين خارج الغالبية، وهم الياس المر وطارق متري وشارل رزق، أضحوا جزءاً لا يتجزأ منها، كل لأسباب مختلفة، على نحو لا يعرّض الغالبية لخطر انهيار إمساكها بالسلطة التنفيذية في ظل استقالة ستة وزراء آخرين.
وقد لا يصحّ قلق كهذا على الغالبية نفسها في مجلس النواب نظراً إلى أن مقعد الوزير الراحل سيبقى في العائلة. وغالب الظن أن والده الرئيس أمين الجميل سيحل فيه تزكية، تفادياً لأي مواجهة انتخابية غير محسوبة سياسياً، في هذا الوقت بالذات، بين قوى 14 آذار والتيار الوطني الحرّ في المتن.
ثانيهما، بات ثمة ترابط وثيق بين إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وإسقاط رئيس الجمهورية إميل لحود. وإذ بدا في الأشهر الأخيرة أن في الإمكان الفصل بينهما، فأولت الغالبية الاهتمام للمحكمة الدولية وتسهيل إقرارها ما بين مجلس الوزراء وإحالتها على مجلس الأمن، واقع الأمر أن الترابط أضحى الآن محكماً وحتمياً. وللأسباب التي أدت الى تجميد مجلس الأمن الإثنين المنصرم تصويته على المسودة في ضوء ملاحظات روسية وقطرية تتصل بالحاجة إلى دستورية إقرارها من المؤسسات اللبنانية المعنية، بات واضحاً أن كلاً من الأمرين يتعارض مع الآخر نظراً إلى أن إبرام وثائق المحكمة الدولية يتطلّب توقيعين ملزمين لرئيس الجمهورية، لإحالتها على مجلس النواب ثم عند إبرامها مع الأمم المتحدة لإضفاء الطبيعة الدستورية التي لا تجعل آلية إقرار المسودة قابلة للطعن، الأمر الذي يضع رئيس الجمهورية بين كونه لا ينكر تأييده لتأليف محكمة دولية، ورفضه سلفاً المسودة التي كان قد أقرّها مجلس الوزراء.
على أن المفارقة في ذلك كله، أن مجلس الأمن الذي طعن في دستورية الولاية الثانية للرئيس اللبناني ولاشرعيتها من خلال القرار 1559 وفرض عليه عزلة دولية ونبذاً ديبلوماسياً قارب عدم الاعتراف به، حتى بأسوأ المظاهر فظاظة، وحمّله ضمناً مسؤولية غير مباشرة عن انهيار الاستقرار اللبناني والوقوف عقبة في وجه الحكومة اللبنانية المنبثقة من انتخابات ديموقراطية جراء تحالفه مع سوريا، يُقرّ اليوم علناً بحاجته إلى توقيع رئيس الجمهورية، وضمناً إلى أن هذا الرجل ـ المحاط بعداء معظم اللبنانيين له ـ لا يزال توقيعه يعبّر عن دستورية موقعه في منصبه وشرعيته.
وقد يكون ذلك هو فحوى الهدف الذي تحدّث عنه أقطاب في 14 آذار وعن تحديد الساعة الصفر لحمل رئيس الجمهورية بالقوة على ترك منصبه.
ومع أن ذلك لا يبدو بالسهولة المتوخاة، وخصوصاً أن المدة المعطاة لإقرار لبنان، نهائياً، مسودة المحكمة الدولية في مؤسساته الدستورية قصيرة نسبياً، فإن الحملة على رئيس الجمهورية باتت هدفاً مباشراً للغالبية من غير أن تتضح حتى الآن آلية إسقاطه. الأمر الذي يدفع بالانقسام الداخلي إلى مزيد من التشنّج والمواجهة.
حمل ذلك قيادة الجيش منذ ليل الثلاثاء على وضع مئات من الأمتار من أسلاك شائكة عالية سوّرت بها الطرق المؤدية إلى قصر بعبدا من جهاته المختلفة بغية منع الاقتراب منه، وتفادياً لصدام بين الجموع ولواء الحرس الجمهوري. ورغم الاحتقان الحاد الذي يسيطر على مشاعر فريق 14 آذار جراء اغتيال الوزير الكتائبي، فإن جهات رسمية رفيعة المستوى استبعدت، في الساعات الثماني والأربعين المقبلة على الأقل، أي تحرّك شعبي يستهدف رئاسة الجمهورية. وقد عوّلت في تأكيدها هذا على اتصالات وجهود لدى قوى 14 آذار أبرزت لها أن هذه تتريّث في تنفيذ هذا الخيار، ولكن من غير أن تتخلى عنه.
ويأتي هذا الإجراء بعد اتصالات كان قد أجراها قائد الجيش العماد ميشال سليمان بالمسؤولين المعنيين، أعلمهم فيها قرار الجيش، وهو أنه معني مباشرة بحماية مباني المؤسسات الدستورية والوطنية والمقار الحكومية ومباني الوزارات كلها بلا استثناء. وحرص سليمان على التأكيد لهؤلاء أن الجيش سيمنع أي محاولة اقتراب أو اعتداء على القصر الجمهوري والسرايا الحكومية ومجلس النواب، وأنه معني بمنع الشغب لا بالخلافات بين طرفي النزاع.
واللافت أن خطوته هذه جاءت بعد أيام على اجتماع عقده العماد سليمان مع سفير دولة كبرى معنية مباشرة بلبنان، بناءً على طلب الأخير، والذي اهتم بسؤال قائد الجيش عن الإجراءات التي تعتزم المؤسسة العسكرية اتخاذها إذا تظاهرت قوى المعارضة وحاولت الاقتراب من السرايا في محاولة لإحداث شغب وإسقاط حكومة السنيورة بالقوة. وكان جواب سليمان أن الجيش حدّد نطاق تدخّله الرادع والحازم، وهو أنه سيمنع أي اعتداء على أي من المؤسسات الدستورية والوطنية في أي مكان كانت. كان السفير مهتماً أيضاً بالتحقق من قدرة الجيش على السيطرة على الوضع الأمني إذا ما نشب شغب أو حصل اصطدام بين طرفي النزاع في حمأة السجالات والتهديدات المتبادلة بين فريقي المعارضة والغالبية اللذين لوّحا بوضع شارعيهما وجهاً لوجه.