جان عزيز
تعتقد أكثرية مسيحية واضحة، أن كل ما يقوله أطراف «فريق 14 آذار»، حول الجهة الممكن اتهامها باغتيال الوزير الشهيد بيار الجميل، صحيح ومنطقي، ومرجّح الاحتمال والوقوع.
فأكثرية المسيحيين عانت كثيراً مع سلوكيات العنف السياسي للنظام السوري ومنها، منذ 30 عاماً كاملة. حتى حين كانت القوى المسيحية المركزية في حال ودّ عابر مع دمشق، ظل المسيحيون قادرين على الإدراك، بأن «حليفهم الموقّت»، يتعاطى أحياناً مع خصومه ومناوئيه، بمنطق توجيه الضربة الى الرأس، لا الى الرأي.
وعند كل فاجعة من هذا النوع، أكانت في معسكر المسيحيين أم في المعسكر المضاد، كانت ذاكرتهم تزداد، إحياءً بهذا الاقتناع، وتترسخ.
فبين بشير الجميل الذي بكوا اغتياله، وبين كمال جنبلاط الذي أطلقوا الرصاص ابتهاجاً باغتياله، كانت أكثرية مسيحية واضحة وثابتة، تؤمن بأن الدم، يمكن أن يكون لغة سياسية تجيدها دمشق، في حالتي إفادتهم الموهومة منها، أو أذاهم المحتوم.
وفوق هذا الاقتناع الراسخ في ذاكرتهم التاريخية الحية، تأتي الأسباب والخلفيات والتحليلات والأغراض المتخيّلة لاستشهاد بيار الجميل أمس الأول، لتبني فوق المدماك «الظنّي» الأول، بنياناً «اتهامياً» جديداً.
فالوزير الشهيد عضو في حكومة مناوئة لنظام دمشق. وهي حكومة قد تسقط بسقوط اثنين من وزرائها.
والوزير الشهيد نائب في أكثرية نيابية قامت على أنقاض الوصاية السورية، وانبثقت من جلائها، لا بل ساهمت فيه. وهي أكثرية محسوبة بأصوات سبعة، وقابلة بالتالي للتآكل الطبيعي أو العنفي.
والوزير الشهيد ركن في فريق سياسي ممسك بالسلطة الإجرائية في لبنان، ويتهم حكام دمشق صراحة ومباشرة باغتيال رفيق الحريري، ويؤمن بأن خط دفاعه الأقرب، إن لم يكن الأوحد، لمواجهتهم، لا بل لمحاسبتهم ومحاكمتهم، يكمن في إقرار محكمة دولية ما، ترد عنف دمشق عن هذا الفريق وعن لبنان، وتأخذ من مسؤولي نظامها حق شهدائه.
فيما المسؤولون السوريون يرفضون المحكمة، أو يحذرونها، أو يرتابون من مضمونها وشكلها والآليات.
وفيما استشهاد بيار الجميل جاء في لحظة تردد دولية حيال كيفية إقرار تلك المحكمة، كما حيال تداعياتها الممكنة على الوضع اللبناني، كما على الملفات المرتبطة بالمسألة اللبنانية ــ السورية من جهة، والسورية الغربية من جهة أخرى.
والوزير الشهيد كان من موقعه المعارض هذا بالذات، رئيساً محتملاً للجمهورية اللبنانية، إن لم يكن عند الاستحقاق المقبل، فربما في استحقاق رئاسي تالٍ. وهذا ما ذكر أن والد الشهيد، الرئيس أمين الجميل، كشفه في اجتماع «قوى 14 آذار» في المقر المركزي لحزب الكتائب أمس الأول، حين أسرّ رداً على تعازي النائب سعد الدين الحريري، بأن رئيس كتلة «المستقبل» النيابية، كان أول من فاتحه باحتمال أن يكون بيار يوماً ما رئيساً للجمهورية اللبنانية، وسط أسى الحاضرين وذهول كثيرين.
والوزير الشهيد كان الزعيم الفعلي والروح المستقبلية لمؤسسة حزبية مسيحية عريقة، وهو قد أدرك منذ فترة هذا الدور المفصلي في مستقبله السياسي، فتفرّغ له وانكبّ على بنائه حجراً حجراً، وسط حساسيات كثيرة، وفي ظل أوضاع غير صحية لغالبية البنى الحزبية والسياسية المسيحية الأخرى.
والوزير الشهيد كان من أبرز وجوه النخب المسيحية الجديدة، بعد الحروب اللبنانية المتراكبة في دوائر ثلاث: حروب الخارج على لبنان، وحروب المسيحيين والمسلمين، وحروب المسيحيين في ما بينهم. وهو بدا من موقعه المتقدم، واحداً من قلّة متخفّفة من أعباء تلك الحروب ودوائرها، ومتأهلة بالتالي لأكثر من دور وإرث.
... كل هذه الحسابات والخلفيات والأغراض والأهداف، تمثل في أذهان أكثرية مسيحية واضحة وثابتة، لتتهم النظام السوري باغتيال بيار الجميل، ولكن...
يبقى سؤالان: أولاً، ماذا لو كان ثمة أطراف أخرى تحاول الإفادة من استشهاد بيار الجميل، من دون أن تكون في موضع الاتهام بالجريمة من جهة، ومن دون أن تكون من جهة أخرى عابئة بثقل خسارة بيار الجميل في الواقع المسيحي؟ ماذا لو كان ثمة من يحسب دم الشهيد بمنطق أرصدة السياسة والسلطة والصراعات الأكبر من لبنان، أو الأصغر؟
وثانياً، كيف يمكن للمسيحيين التعاطي مع كارثة فقدان بيار الجميل، كي لا تتحقق أغراض المرتكبين، ولا تقاطعات المستفيدين، انطلاقاً من القاعدة الميثاقية الثابتة، والقائلة بأن مصلحة هذا الوطن لا يمكن أن تبنى على نكبة جماعة من جماعاته؟
ما تجمّع في الواقع السياسي المسيحي واللبناني بين لحظة الجريمة وحدث التشييع المرتقب اليوم، يحمل الكثير من اللبس والإبهام حول المؤشرات المحتملة لهذين السؤالين.
ففي مقابل الموقف «الأيقوني» الحكيم والواعي لوالد الشهيد، كانت ثمة مواقف وتصرفات على الأرض، انفعالية ذاتية، أو متعمّدة مندسّة، تنذر بالترجيح السلبي.
أيّ من النوعين سيكون الوازن والحاسم؟
مسألة متروكة للساعات المقبلة، في ظل أكثرية مسيحية واضحة وثابتة تتهم النظام السوري، كما في ظل إحساس مسيحي جامع مكتوم، يتساءل إلامَ سيظل المسيحيون محشورين بين من يقتلهم ومن «يقرّش» قتلاهم والشهداء...