طرابلس- نقولا طعمة
لعلّ منطقة باب التبانة في طرابلس من أبرز المناطق اللبنانية فقراً وتهميشاً وحرماناً مزمناً. وهي منطقة تضمّ زهاء خمسين ألف مواطن، ويتركّز العمل فيها على القطاعات الحرفية اليدوية المتعلّقة بالسيارات ومنها الميكانيك، وبيع الفرط، والحدادة والدهان، إلى بعض مصانع الخشب.
تعرّضت هذه المنطقة لأحداث أمنيّة داخليّة في النصف الأول من الثمانينيات، فتسبب ذلك باحتراق شارع سوريا البالغ كيلومترين طولاً، وامتداداته سوق القمح والحبوب، وسوق الخضار، وبنتيجة ذلك، ضرب قطاع تجاري ضخم طالما شكّل ملتقى للوافدين من مختلف المناطق الشماليّة، ومن سوريا، للتبادل والتبضّع بأسعار رخيصة.
وبعد الانهيار الكبير لسوق العمل في المنطقة إثر انتهاء الأحداث، عاد بعض الحرفيين يلمّون أشلاء أعمالهم البسيطة، وبقي من كان متورطاً في الأحداث لسنوات عديدة عاجزاً عن العمل، فاقداً المهارة التي كان ابتناها. كما أن كثيرين منهم نشأوا في خضمّ الأحداث، ولم يتسنّ لهم بناء أنفسهم.
تمثّل التبانة اليوم الخزّان شبه الوحيد للفقراء الذين لم يبق لهم ما يعتاشون منه إلا هذا النوع من العمل: الاحتراف المسلّح. ولأنّهم أبناء مذهب معيّن، وتجاوبوا في الانتخابات الماضية مع شعارات التعاطف مع قضيّة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تؤلّف بعض بؤر منهم وقوداً لمعارك سياسية محتملة، وعصباً لإمكان النزول إلى الشارع.
لكنّ ذلك يعرّض المنطقة لتجدّد دفع الثمن من حياة أبنائها، وأرواحهم، وتدمير ما أعيد إنشاؤه من اعمالهم، ويهدّد جانباً مما يمكن أن يسمّى الوحدة الوطنيّة في المنطقة حيث رمّم التعايش السنيّ ــ العلوي، وعاد نوعاً ما إلى عهد سبق أحداث 1975. وتتهدّد هذه الحالة من التعايش تعبئة مذهبيّة على أنغام تواتر أنباء المعارك المشبوهة الآتية من العراق، يروّج لها لاعبون سياسيون معروفون لحشد تعاطف أدّت حرب تموز الدور الكبير في تراجعه، وتجري التعبئة على قاعدة حساسيّة سابقة تجاه الطرف السوري، ومفتعلة بشكل مستجد مع الطرف الشيعي والإيراني.
لكنّ غالبية سكان المنطقة ترفض توريطها في أحداث كانت قد دفعت ثمنها غالياً، وترفض استغلال حرمانها من السلطات المعنية المتعاقبة، ومنهم مستغلّو وضعها الراهن. لذلك، يحاول كثيرون من أبناء المنطقة من المتقدّمين في السنّ تجنيب المنطقة لأحداث محتملة، ويتدخّلون لدى بعض «المتحمّسين» الموظّفين لغايات كهذه منعاً لهم من جرّ أحيائهم إلى حيث لا يرغبون.
وفي الوقائع، فقد دعا أحد المتحمّسين إلى تجمّع في شارع سوريا لمناسبة ذكرى الرابع عشر من تشرين الأول، كان من شأنه أن يستفز أبناء الجوار، فتدخل عدد من الوسطاء، وتمكّنوا من إقناع صاحب الدعوة بنقلها إلى الأحياء الداخليّة منعاً للاحتكاك مع الحي المقابل.
وتتناقش مجالس الأحياء بقلق في كيفية تجنيب المنطقة مغامرات لا مصلحة لسكان المنطقة فيها، ولذلك أيضاً، توسّط عديدون لدى بؤرة صغيرة مسلّحة نزلت إلى الشارع في سوق الخضار أخيراً دفاعاً عن الحكومة، وأقنعوا عناصرها بالانسحاب بعد وقت قصير من نزولهم.
عارفون في شؤون المنطقة لا يعيرون تطوراتها أهميّة كبيرة، وجلّهم يدرك أن «ما يجري هو استغلال مرفوض لفقر المنطقة ممّن يتشاركون المسؤولية عن فقرها».