طارق ترشيشي
بعد محاولات الاكثرية المتكررة لتهشيم رئاسة الجمهورية وتهميشها وإبتلاع صلاحياتها لمصلحة الرئاسة الثالثة ( اي رئاسة الحكومة) جاء دور الرئاسة الثانية (اي رئاسة مجلس النواب) التي ستوضع على ما يبدو امام خيارين : إما ان تنفذ ما يملى عليها وتتقبل إحالة مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي بكل إشكالياته الدستورية، لجهة عدم شرعية الحكومة التي أقرته وعدم إقترانه بتوقيع رئاسة الجمهورية. واما سلب الرئاسة الثانية الصلاحية المناطة بها حسب إتفاق الطائف، بحصرية تحديد جدول اعمال الجلسات النيابية ودعوة الهيئة العامة لمجلس النواب الى الانعقاد، والتي تماثل تلك المناطة برئيس مجلس الوزراء لجهة الصلاحية في دعوة مجلس الوزراء الى الانعقاد. وكما ان نائب رئيس مجلس الوزراء لا يستطيع دعوة المجلس الى الانعقاد في وجود رئيس الحكومة، فإن نائب رئيس مجلس النواب لا يستطيع دعوة المجلس الى الانعقاد، حتى ولو تمنَّع رئيس المجلس عن القيام بهذه المهمة ، وإلاَّ صارت الرئاسة الثالثة تمارس ديكتاتورية الحكومة وبالتالي تبتلع صلاحيات الرئاستين الأُولى والثانية.
وإذا صحَّت حصرية رئيس الحكومة فؤاد السنيورة يوم السبت الماضي، بعدم تلبية دعوة رئيس الجمهورية الى عدم انعقاد جلسة مجلس الوزراء او تأجيلها لأن الحكومة لم تعد دستورية ، فلا يمكن منع رئيس مجلس النواب من ممارسة هذا الحق، إلاَّ إذا كان المقصود رمي كرة اللهب ، اي المحكمة الدولية، بين يديه لتحرق اصابعه، ولوضعه محل الاتهام بأنه يعرقل قيام هذه المحكمة او يرتكب مخالفة دستورية بتقبل إحالة الحكومة من دون توقيع رئيس الجمهورية، بالإضافة الى تحمله عدم ميثاقية الحكومة وابتلاعه كل مواقفه السابقة، وبالتالي يكون في هذه الحال شريكاً في خرق إتفاق الطائف، من دون ان يكون صاحب فائدة او حافظاً لنتائج يرغب فيها . ولذا فإن حكومة الاكثرية تتجه الى محاولة إظهار ان الشيعة يعطلون المحكمة في المؤسسات الدستورية ( مجلسي النواب والوزراء) ومن خلال التهديد بالنزول الى الشارع وذلك بغية إظهارهم كطائفة في مواجهة العدالة عموماً، وضد الطائفة السُنيَّة خصوصاً . مع العلم ان البيان الأخير لقيادتي حركة "أمل" و"حزب الله" اكد موافقتهما الصريحة والمبدئية على انشاء المحكمة الدولية، بشرط المشاركة في مناقشة تفاصيلها ونظامها ، لكن السنيورة يحاول التعامل مع الحركة والحزب وفق المقولة العسكرية:" نفِّذ ثم إعترض"، اي "وافقوا على المحكمة ثم إعترضوا على ما تشاؤون ، لأن اوامر الباب العالي الاميركي تفرض مواعيد محددة ومقررة قبل صدور تقرير القاضي سيرج براميريتز المحقق الدولي في جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري منتصف الشهر المقبل ، وعلى اللبنانيين وقواهم السياسية ان ينصاعوا بلا نقاش".
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل ان الرئيس بري في صدد تجاوز الاصول الدستورية والميثاقية وكذلك شروط السلم الأهلي المرتكزة على العيش المشترك ؟ام أنه سيخضع لإبتزاز حكومة الاكثرية حتى ينجو من الاتهام، وهو الذي كان تعرض للإبتزاز في تقرير المحقق السابق في جريمة إغتيال الحريري القاضي الالماني ديتليف ميليس عندما رُفِعَ سيف الترهيب في وجهه عبر مكالمة "المستر إكس"؟
قبل تقرير براميريتز المقبل، تحاول الاكثرية ان تبتز الرئيس بري، وبدل الاتهام بـ"مستر إكس" فإنها تعلن صراحة ان "المستر بري" يعرقل المحكمة الدولية وبالتالي "يحاول تغطية الجناة" خصوصاً وان هذه الاكثرية الآذارية كانت قد اتهمته قبل اسبوعين في قريطم عندما كان يزور طهران بأنه "أداة سورية ـ ايرانية" وبالتالي فإنه سيكون عُرضة للتصويب وإطلاق النار بعد رئيس الجمهورية ، ولكن من زاوية مختلفة . فالرئيس لحود يتعرض للهجوم طعناً بشرعية تمديد ولايته . والرئيس بري يتعرض للهجوم طعناً بمسلكيته السياسية وشرعيته في ممارسة صلاحياته ،حتى تتمكن هذه الاكثرية الحاكمة من الاستيلاء على الرئاسات الثلاث بسلطة الامر الواقع وعلى طريقة " الفاجر يأكل مال التاجر"، وكل ذلك تحت غطاء كشف حقيقة الدم المسفوك من الرئيس الحريري الى الوزير بيار الجميل. ولكنها تحاول تضييع الحقيقة التي تفتش عنها كما ضاعت الرصاصات الفارغة قرب سيارة الجميل اثر اغتياله. بيد ان اوساط المعارضة تقول: "ان كيل بري قد طفح ، ويمكن ان يعاود القيام بما قام به في شباط 1984 ضد الرئاسات الثلاث مجتمعة ضده آنذاك ( الرئيس امين الجميل ، الرئيس كامل الاسعد، الرئيس الراحل شفيق الوزان ) فكيف الآن ضد سلطة واحدة هي الرئاسة الثالثة فيما هو يُمسِك بالرئاسة الثانية فيما والرئاسة الاولى غير معادية له ، وذلك حفظاً للسلم الاهلي ولإتفاق الطائف الذي تسعى بعض اطراف 14 آذار الى نسفه لمصلحة فيدرالية او حكم ذاتي خصوصاً وان بعض اركانها يفاخر بأنه " كردي عنيد" فإما ان يُعطى رئاسة جمهورية لبنان مثل الرئيس جلال الطالباني في العراق او يعطى إقليم "جنبلاطستان"وإلا فإن هذه القوى ستعمل في ما تبقى لها من وقت على تدمير الهيكل اللبناني على رؤوس الجميع إذا لم تستطع مصادرته او الامساك به وهي التي تبشر اللبنانيين على لسان قادتها بإغتيالات مقبلة بعدما تحققت توقعاتها السابقة بإغتيال الوزير الجميل".
في هذا السياق تتوقف مصادر الرئيس بري عند قول نائب "القوات" جورج عدوان اثر زيارته البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفيرقبل ثلاثة ايام من ان مجلس النواب سيجتمع "بطريقة ما" لإقرار المحكمة الدولية في لم يدعوه رئيسه الى الانعقاد لهذه الغاية وتتساءل :"هل ان هذه "الطريقة الما" هي على طريقة "التنبؤات" بإغتيال الوزراء والنواب ؟"
وفي اي حال هل ينتصر الدم المسفوك لتخريب الصيغة اللبنانية ؟ ام ينتصر العقلاء ويحمون الكيان اللبناني بعد فشل اسرائيل بتدميره او تخريبه مرة تلو الأُخرى؟ ساحة المعركة الجديدة هي ساحة النجمة وليست قصر بعبدا ، والايام المقبلة ستحمل الطلقات التشريعية ، فإما ان يتم إعدام صلاحيات رئيس مجلس النواب وإما ان يتم إعدام تجاوز الدستور.