فداء عيتاني
صوفي هو، ومقاتل أيضاً، يعرّف السياسة بالحب وليس بالكره، ويتمنى العودة إلى مرحلة إعلان الحب لله والانتشار بالدعوة وليس بالمقاومة للدفاع عن الوجود، إلا أن أرض الواقع تفرض الدفاع عن النفس، كما يرى الشيخ الصوفي المقاتل عبد الناصر جبري.
في مرحلة قريبة، وخلال الأزمة التي ألمت بالطائفة السنية والتململ الذي حصل من مواقف مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني خلال شهر رمضان، ووقوف الأخير إلى جانب طرف ضد آخر من أبناء دينه، واستقباله سمير جعجع مهنئاً وحيداً بحلول عيد الفطر، كانت الألسن بين المعارضة من أهل السنة تهمس بأن الجبري هو المفتي البديل، ولو على المستوى الشعبي. الجبري متواضع وصريح، يتحدث عما يجول في خلده من دون توجيه الكلام ولا تنميقه ولا استخدام الطباق أو المترادفات على عادة بعض علماء الدين. وبعد أن يستفيض بالكلام، يستدرك الشيخ الشاب المولود في العام 1958 أمام الصحافي: «قد لا يصلح ما قلنا للنشر، فاعتن أنت بالأمر»، تاركاً الباب للثقة، لتدخل منه إلى قلب محدثه.
الجبري شخص ناجح في الإدارة في رأي العديد من المعارضين، ويشيرون إلى «كلية الدعوة» التي يرأسها، والتي تطورت وخرجت العديد من العلماء، وهم بإشارتهم إليها يضيفون إن مؤسسات السنة في لبنان، عادة ما تعاني مشكلات عضوية، ويبدو لليوم أن ما قام به الجبري هو تجاوز لهذه المعضلات.
الجبري الذي يستيقظ باكراً ليصلي في إمامة طلابه صلاة الفجر في كلية الدعوة، هو من كان في زمن الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982، يفتي بحرمة الخروج من بيروت المحاصرة، وهو من اضطر إلى حمل السلاح والوقوف بين الشبان المقاتلين المتحسبين لإنزالات إسرائيلية في بيروت، بثيابه العلمائية التقليدية، كان يجول على محاور العاصمة المحاصرة لرفع معنويات المقاتلين والوقوف على أحوالهم. والجبري هو الذي ساهم في مد المقاومة في الجنوب، وخصوصاً في صيدا بأسباب العمل، وهو الشيخ الذي ينطلق من الحب والعشق من دون الهوى، وهو الصوفي المتناقض، وحين تسأل عنه أحد الحزبيين يفيدك: «الجبري شيخ مقاتل».
الجبري متهم بالموالاة لسوريا، أو بلغة بعض سلطة اليوم، «بالعمالة لدمشق»، وهو يؤكد أنه بعد الانسحاب السوري تألّفت مجموعة لتسهم في إظهار وحدة الشعبين، وضد منطق العداء بين جارين قريبين إلى هذا الحد. خصومه يدلونك على أصله السوري، وهو يؤكد لك: «جدي الرابع مدفون في بيروت، ومنزل العائلة لا يزال موجوداً في منطقة البسطة التحتا، وجده كان من تجار شارع سرسق، وإن كانت العائلة تنقلت بين بيروت ودمشق، شأنها شأن العديد من العائلات اللبنانية في المرحلة الممتدة بين الاستقلال وما تلاه من أعوام قليلة».
كان الجبري من تلامذة المفتي الراحل حسن خالد، «حين يكون لدي اعترض أو أية مساءلة، كنت أطرحها بصفتها سؤالاً على المفتي حينها، وكنت من المقربين منه». وبعد استشهاد حسن خالد أقصي الجبري عن دار الإفتاء، التي كان يشغل فيها منصب ناظر عام أزهر لبنان.
كان أحد مؤسسي «تجمع العلماء المسلمين» في عام 1982، إلى جانب عدد من الشخصيات، وتلقى العديد من النصائح «بالابتعاد عن التجمع». ووصل الأمر إلى حد إرسال كتاب إلى «رابطة العمل الإسلامي» في السعودية، يتهمه بالتقارب مع الشيعة، فاستجابت الرابطة للكتاب، بأن قطعت مرتب الجبري.
كان يسمع الجبري من حسن خالد، معلمه ومرشده حينها، مدائح في الإمام الخميني، وهو عالم الدين الشاب المتأثر أيضاً بأفكار المفتي السوري السابق أحمد كفتارو، رأى في أفكار الخميني نقلة للمذهب الشيعي، ولم ير فيه أي تمييز بين سنة وشيعة، «ويبقى الخلاف، هل حمل رجال تاريخنا الإسلام كما ينبغي أم لا؟ ونحن لا نعبد الأشخاص، والخلاف في العقيدة لا يؤثر في المسلمات».
في مقابل الإعجاب بأهل المذهب الجعفري اليوم، يقول الشيخ الجبري: «مساكين أهل السنة، نحن ضائعون ولا من يوجهنا». ربما انغماس الرجل في إطار التعليم بعد أن انتهت الحرب، بعدما صار يدير ما يقارب عشر مؤسسات تعليمية بين كلية الدعوة وأخرى في المناطق، هو ما أثر في تشخيصه للأمور، فصار يرد الخلل إلى التنشئة التعليمية والثقيفية والتوجيهية.
في بدايات مراهقته، وحين كان لا يزال طالباً، كان يتطوع للذهاب إلى المساجد في الهري وشكا، هذه المساجد التي أُحرقت خلال فوضى الحرب الأهلية، كما في مسجد عرب وادي خالد كان الجبري يخطب في المصلين نهار الجمعة، وهو يبلغ الرابعة عشرة من العمر، ويراقب رفاق دراسته يأكلون من مصروفهم وهو ينفقه للوصول إلى المساجد البعيدة عن بيروت، ويشكر ربه لأنه وضع مصروفه أجرة طريق بدل أن يدفع به في معدته.
في زمن القوات المتعددة الجنسيات (1982ــ1984) قاد الشيخ الجبري من أحد مساجد بيروت، تظاهرة وعدداً من التحركات ضد هذه القوات، التي يصفها بالنجاسة، ولا يراها إلا تدخلاً غربياً، وكان تحركه موجهاً ضد الفئوية التي حكمت البلاد آنذاك. واليوم يحاول الجبري الدخول بالسنة إلى مرحلة الإصلاح، الذي لا يخفي مواقفه منه، والإصلاح حملة كبيرة، قد لا تشمل تعيين مفت شعبي ولا مفتي ظل، وإن كانت تتطلب الكثير من العمل الصامت الذي يجيده الجبري، على رغم عفويته.