ابراهيم الأمين
إنه الوقت الضائع. وكل المبادرات التي يجري تداولها لا تعكس حقيقة الانقسام الحاد القائم في البلاد. الوساطات لا تبدو جدية. ومع البحث السياسي من فوق ثمة تحضيرات تجري بقوة من تحت، وعند الاطراف كافة. فريق السلطة يتحدث عن إنذارات متكررة عن تحركات المعارضة بين لحظة وأخرى، مع جهد خاص من جانب القوى الأمنية الخاضعة لسلطة فريق 14 آذار لتتبع برامج القوى المعارضة وكيفية تناولها الوضع الميداني. ويترافق ذلك مع ضغط كبير من جانب الفريق نفسه على الجيش لتولي الأمر على الارض، ما يعكس أزمة الثقة الكبيرة القائمة بين الأطراف الاساسية، وهو أمر يستوجب تدخلاً من مستوى ارفع بكثير من الذي يحصل الآن. وبالتالي فإن من الصعب توقع حلحلة غير عادية إلا إذا حصلت معجزة.
يوم أقرت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة مسوّدة الاتفاقية مع الأمم المتحدة حول المحكمة الدولية، تلقى الرئيس نبيه بري عرضاً حمله الوزير مروان حمادة يقوم على فكرة عودة الوزراء عن استقالتهم وأن يصار الى مناقشة أمر المحكمة ضمن لجنة وضمن فترة زمنية محددة وأن يصار الى استئناف طاولة الحوار ويوضع عليها بند نقاش مفتوح ودون ضغوط زمنية حول تأليف الحكومة الجديدة وعلى قاعدة مناقشة اقتراح فريق 14 آذار بأن تضم 19 وزيراً من فريقهم مقابل 10 وزراء من فريق المعارضة وواحد حيادي لا يصوّت ولا يستقيل. وهو ما وصفه بري مباشرة بأنه تضييع للوقت ولا يعكس رغبة من فريق السلطة في التوصل الى حل. وعاد حمادة وبعده مستشار السنيورة محمد شطح الى السرايا الكبيرة حيث كان نص مقررات الجلسة الحكومية جاهزاً للتلاوة.
لم يكن بري ينتظر جديداً أصلاً، وهو الذي خبر أقطاب السلطة وليس آخرهم الرئيس السنيورة، ولكنه مضطر لأن يبقي بابه وباب الحوار مفتوحاً. علماً بأن كل من كان يزوره في أعقاب كل اتصال به من السلطة يجده أكثر توتراً وأكثر إحباطاً من فريق السلطة “الذي يبدو أنه غير مهتم إلا بمصالحه”. وكاد الأمر يصل به حدود إقفال خط الهاتف وأشياء أخرى، لكنه نزل عند رغبة البعض وقبل بالاتصالات الاخيرة التي لم تحمل أي جديد... وقرر في نهاية الأمر التوقف حتى عن الكلام ما عدا عبارة “الله يستر البلد”!
في هذه الاثناء كان الجميع يبحثون عن مصدر آخر يوصل الكلام بعضه ببعض. وكان أن اختير الرئيس أمين الجميّل بحكم المصيبة التي ألمّت به. تقدم بين أركان 14 آذار حاملاً دم ابنه على يديه، ورحّب به الآخرون في اللحظة الحرجة. لكن الضغوط الجدية كانت تأتي من مكان آخر. تعرّض الجميّل نفسه لضغوط مباشرة. بدأت بتلقّيه اتصالات تعزية من كبار المسؤولين في العالم والمنطقة عمل آخرون على تأويلها مواقف داعمة له شخصياً. وانتشرت “خبرية” ترشيحه للرئاسة كحل للأزمة. قيل إنه يمكن ان يكون الرئيس لمدة عامين تجري خلالهما انتخابات نيابية وبعدها يُنتخب رئيس جديد. ومع أن الامور ظلت في إطار هوائي من دون خطوات عملية، إلا أن فريق 14 آذار وجد أن من الضروري المباشرة باستثمار موقع الجميّل الحالي، وانتقل الأمر من حدود البحث في اعتباره ناطقاً باسمهم إذا أقر بتلاوة ما قرره “جهابذة القرنة وفدائيوها وأتباعها” أو التوقف عند هذا الحد. وعندما شعر هؤلاء بأن الجميّل لا يستجيب لكل ما هو مطلوب، وبدأت المناقشات في منزله وفي محيطه عن خلفيات واستهدافات اغتيال نجله، خرج من يقنعه بإمكانية لعب دور توحيدي وعلى خلفية منع استغلال الجريمة.
وإذ قال الجميّل أمام زائريه من المعزين إنه مهتم باستغلال الوضعية الحالية لأجل تحقيق التسوية ولو بحدودها الدنيا، فقد قال امس كلاماً لافتاً مفاده أنه يمكن له أن يؤثر بقوة على الوضع الداخلي لفريق 14 آذار، وان هذا الفريق له قيادة مثلثة تضم وليد جنبلاط وسعد الحريري وهو، في إشارة فهمها الزوار على أنها رفض لمحاولة “القوات اللبنانية” استغلال الجريمة وأمور اخرى بقصد توسيع نفوذها في الوسط المسيحي، وخصوصاً أن الكتائب كانت قد عبّرت مراراً بلسان الوزير بيار الجميل نفسه، عن رفض ثنائية الشارع المسيحي بين “القوات” والتيار الوطني الحر.
لكن التحرك كان يحتاج الى دفع من هنا او من هناك. وحصل امس أن بادر الرئيس عمر كرامي، من تلقاء نفسه ومن دون التشاور المسبق مع الآخرين من قوى المعارضة، الى خطوة لها اكثر من تفسير، بينها ما يتصل بمحاكاة ما يقوله الجميل من امكان تحريك الجمود القائم، وبينها ما يتصل بأمر آخر يتصل باحتجاج ضمني على “نقص في التشاور” مع الحلفاء، وهو أمر بلغ المعنيين بالأمر في قيادتي حزب الله والتيار الوطني الحر من دون أن يحظى بدعم وتغطية كاملة، علماً بأن كرامي اتصل بأصدقاء ومحاورين أبلغوه أن الأمر لا يتصل مباشرة بالرغبة في المبادرة بل في القدرة على إقناع الآخرين بجدواها وبقيمتها، وهو ما ظهر للرئيس كرامي نفسه بعد تلقيه مساء امس اتصالاً من الرئيس فؤاد السنيورة يسأله تفاصيل مبادرته فرد الأخير بأن أرسلها له مكتوبة، فعاود السنيورة الاتصال مستوضحاً الأمر وقائلاً: اقتراحك يا افندي يعطيكم في المعارضة كل شيء ولا يترك لنا أي شيء، فأنت تريد الحكومة مع ثلث معطل وتعطي لجنة لدراسة ملف المحكمة وتترك أمر الرئاسة الى توافق قد لا يحصل. فرد كرامي: وهل نعطل البلاد ونخربها إذا لم نتفق الآن على رئيس جديد. فقال السنيورة: لماذا لا تسيرون باقتراحي القاضي بحكومة من دون ثلث حاسم. فرد كرامي بأنها بدعة غير موجودة في الدستور. فأصر السنيورة على انها متبعة في عدد من الدول. فقال له كرامي منهياً الاتصال: اذهب وعدل الدستور وانتبه الى أن البلاد كلها مرهونة بما تقدمون عليه الآن.
وإذا عُطف هذا الحوار على الطريقة التي أطل بها رئيس الحكومة على اللبنانيين والعرب وتجاهله وجود مشكلة حقيقية في لبنان فإن الصورة تبدو قاتمة جداً ولا سيما أن السلطة لا تهتم بغير بضعة حراس تضج المدينة بصراخهم وهم يقفلون الشوارع والساحات بحجة الأمن الذي لا نعرف كيف ستوفره هذه السلطة لأهل البلاد.