ابراهيم الأمين
لم يعد الأمر متصلاً بحوار أو بغيره. والأبواب الموصدة لن يفتحها لاعبون صغار، علماً بأن مصير الحكومة بات اليوم بيد وزيرين أو ثلاثة من الذين يدرسون أمر تاريخهم السياسي ومستقبلهم أيضاً مع مرجعيات سياسية ودينية ترى أن بيد هؤلاء مفتاح الجزء الأول من حل الأزمة، وأن استقالة هؤلاء يمكن أن تقود الجميع حتماً إلى حوار اضطراري لأجل تركيب وضع حكومي جديد. علماً بأن الكل يعرف أن الأمر بات يرتبط بأزمة إدارة البلاد لا بمحكمة دولية ولا بحكومة. لكن الأمر يتصل أكثر بما يمكن أن يحصل من باب السعي الى معادلة سياسية من نوع آخر. الرئيس نبيه بري كان فاتحاً الابواب ولا يزال كما قال امس للسفير السعودي في لبنان عبد العزيز خوجة. لكنه كان في قمة غضبه إزاء سماعه النائب سعد الحريري يصفه والمعارضة بأنهم مجموعة خونة. ثم إن صدره ضاق بـ“رياء صاحب الدولة الذي أمسك بما لا يريد الإفلات منه ولو على حساب كل الناس” على حد قول احد حاملي الرسائل. أما العماد ميشال عون فقد ضاق ذرعاً بلعبة مقاضاته اليومية ودفعه الى قفص الاتهام لمجرد الاعتراض “على سياسة غبية يعتمدها هذا الفريق الذي تعوّد على تلقي الأوامر من الخارج، أياً كان هذا الخارج، ويهتم لأمر مراضاة الخارج قبل الداخل، ويهدد الناس بلقمة عيشهم إن هم اعترضوا وطالبوا بالتغيير. كذلك سئم عون “حكماً يستعيد سطوة تحالف المال والميليشيات التي كان لها ما لها في تدمير هذه البلاد”. أما حزب الله الذي ابتعد طوال خمس عشر سنة عن الداخل قابلاً بمقايضة حماية ظهر المقاومة بترك أمور السلطة الداخلية لتحالف أهل الشر، فقد جاءت الحرب الاخيرة وما تلاها من حرب منع الإعمار لتؤكد له ما كان يعرفه ويتجنبه في الوقت نفسه، بأن معركة التحرير لا قيمة لها إذا لم تقترن بمعركة تغيير داخلي، وأن التحالفات المؤقتة على حساب عناوين مصيرية ما هي إلا لعبة روليت روسية غالباً ما كانت نتائجها سلبية في لبنان.
أما البقية من القوى السياسية التي تعرضت لاضطهاد شخصي وسياسي وأمني وجماعي منذ خروج سوريا من لبنان، فهي باتت الآن أمام خيار الدفاع عن النفس بوجه من كان يتقدم عليها في الاقتراب من سوريا ومحاباة قادتها في لبنان ودمشق. وهذه القوى “لا تملك من دنياها سوى الدفاع عمّا بقي لها بوجه سلطة تريد استغلال الدم من أجل قتل الخصوم لا إبعادهم عن المشاركة فحسب”.
لكن في المقابل، يبدو تيار “المستقبل” مستعداً لخوض مواجهة هي الاقسى في تجربته على قصرها. لكنه يتقدم رافعاً شعارات الجبهة اللبنانية التي يحق لسمير جعجع الزهو بها الآن، ويقبل بأن يقوده متطرفون من جبل لبنان فاقدون للدور التاريخي في لبنان الجديد، ويعرّفهم وليد جنبلاط بحماة الثغور، وهو المقتنع بأن كل ما سوف يحصل لن يقترب منه، وسوف تبقى مناطقه بعيدة عن أي مواجهة، وسوف يحدد مسار المواجهات هو من الجبل، حيث يحمي نفسه بـ“السور السني على طول خط الساحل غرباً، مسيحيي “القوات” شمالاً وسنة البقاع الغربي شرقا”. ويفترض المستقبل أن هناك من يريد حرمانه سلطة مستحقة له منذ عشرات السنين لكن خطفها الآخرون، وعندما حان الوقت للقطاف جاء الآن من يريد “تشليحها” منهم عنوة. ولذلك فإن التعبئة في قواعد هذا التيار شديدة التعقيد، وهي تخلط الاعتبار الطائفي بالمذهبي بالسياسي، في مواجهة إن تعاظمت فسوف تأتي على كل شيء.
إجرائياً، انطلقت رحلة المعارضة نحو التغيير السياسي الداخلي بدءاً بعنوان الحكومة، وهي رحلة تحتمل كل أنواع المفاجآت الايجابية أو السلبية. والحديث عن مواجهات الشارع حديث جدي من زاوية لكنه يأخذ طابع التهويل من ناحية ثانية، بسبب حالة التناقض القائمة في خطاب فريق الحكم. فمن جهة قرر الفريق الحاكم أن من ينزل الى الشارع يكون مشاركاً في انقلاب سوري ــــــ إيراني على الشرعية الاستقلالية. وبالتالي يعمل هؤلاء بكل ما يملكون من نفوذ لمنع الناس من النزول الى الشارع ولمنع إقفال المدارس أو المتاجر أو المصارف، ثم يطلبون في الوقت نفسه من شارعهم الاستعداد للدفاع عن الشرعية من خلال إشعار الآخرين بأن الشارع مع السلطة وليس مع المعارضة، مع ما يتطلب ذلك من استعداد لمواجهات تستعد لها أيضاً القوى الأمنية الخاضعة لسلطة الفريق الحاكم الإدارية والسياسية، والتي لا تقوم إلا بعمل واحد هو التجسس على المواطنين وملاحقة كل من له صلة بالمعارضة والعمل على نشر المئات من العناصر الامنية في الشوارع والأزقة لافتعال المشاكل بغية اتهام المعارضة بأنها تتقصّد القيام بأعمال الشغب، علماً بأن الناس شاهدوا يوم تشييع الوزير بيار الجميل عمليات الترهيب ورشق منازل وطنيين كبار مثل سليم الحص من قبل عناصر تابعة لوليد جنبلاط، حاولت القيام باستعراض عضلات في الطريق من بيروت وإليها، وبصبية يذكرون بأيام الحرب وهم يرشقون السيارات بالحجارة في ازقة بيروت، وبزعران من القوات اللبنانية يعتدون على الناس في المناطق المسيحية ويرهبون عناصر التيار الوطني الحر، وكأن “سيوف القوات لم ترتو بعد من دماء الناس”. ثم كانت قوى السلطة في القطاع الخاص تحاول ممارسة الضغط بإعلان الإضراب بغية دفع الجميع الى التحرك لأجل التهدئة، ليتبيّن بعدها أنها تعمل عند السلطة فقط، وهي تعتبر أن من يشارك في تحرك المعارضة اليوم يكون شريكاً في تدمير لبنان. وكل ذلك يجري والرئيس فؤاد السنيورة يسكن قصره العاجي مطالباً الناس بالتخلي عن كل شيء لأجله، وهو لا يهتم لمعنى أن يكون الحاكم خائفاً من ناسه ومن أهله ولا تكفيه ولا تحميه إجراءات القوى الأمنية التي زادها آلاف العناصر بدل خفض عديد القوى العسكرية كما ظل يقول طوال الفترة السابقة على توليه مسؤولياته، وهو يصعب الأمر على نفسه وعلى الناس. ولا يأبه لحاله الذي لم يجد له علاجاً حتى بات لا يخرج من سراياه الكبيرة وضم إليه من تبقى من وزراء حكومته، حتى تندّر الناس بالحديث عن «فندق فؤاد الأول» وسط بيروت الذي كان وما يزال مركز الحل أو الخراب، ويبدو أن الأمر متصل بلعبة قاسية، حيث تتقدم المعارضة بينما تراهن السلطة فقط على ان المعارضة سوف تتعب وناسها سوف يتراجعون الى حدود التخلي عنها.