غسان سعود
من «خبز وعلم وحرية» إلى «يا زعيم ما تعتل هم عندك زلم بتشرب دم»

يعود لبنانيون كثر اليوم، مرة أخرى، إلى خيار الشارع، بعد أن فشلت كل المحاولات الأخرى لإيجاد حلول مقبولة. وتاريخ اللبنانيين حافل بالتظاهرات التي لم تغِب ذكراها الجميلة، سواء حقّقت مطالبها أو لم تحقّقها.
بقي من اعتصامات الـ2005 مشاهد عدة، وبعض الذكريات: في 16 شباط، الجمهور يصرخ «لا إله إلا الله سوريا عدو الله»، وبهاء الحريري يصرخ «يا قوم يا قوم، بهاء يخاطبكم»... في 28 شباط، تُنسى وجوه المتكلّمين في المجلس النيابي وخطاباتهم، ويبرز الآلاف من الذين توافدوا منذ الساعة التاسعة من الليلة السابقة للنوم في ساحة الشهداء خارقين قرار منع التجوال. والكل يذكر صورة الجيش اللبناني يفتح ثُغراً في صفوفه ليدخل المتظاهرون إلى الساحة. وفي 8 آذار، يذكر الجميع الصور الساخرة من أبطال المعارضة وشعار «شكراً سوريا». أما 14 آذار فالصورة الأبرز منه، عدم القدرة على التحرك بسبب الازدحام البشري الهائل. وفي 14 شباط 2006، يكاد ينحصر المشهد بالثلاثي سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع يشبكون أيادي بعضهم بعضاً. وجنبلاط يردّد «يا بيروت بدنا التار من لحود ومن بشار».
ينقطع المشهد، يغيب الإبداع عن التظاهرات اللاحقة التي تنزوي حشودها خلف شتائم تقليدية. شذّت المشاهد الجديدة لقوى الرابع عشر من آذار عن الخط الذي سلكته سابقاً. وهكذا استبدلت «راجع راجع يتعمّر لبنان» في «وينو اللي ناوي يقاتل». واستعيض عن العلم اللبناني بالعودة إلى الأعلام الحزبية، وحتى أعلام الفرق القتالية ضمن هذه الأحزاب.
وانتهت جاذبية تظاهرات الـ2005 التي شهدت للمرة الأولى ازدحاما في ظل مشاركة أفراد وعائلات، لتبدأ مرحلة أخرى يستعيد فيها التظاهر صفته المقلقة، وخصوصاً مع تركيز السلطة على «خطر ينجم عن التظاهر». أمّا المعارضة فتؤكّد أنّ مكافحة الشغب، إذا قرر بعض المندسين القيام به، فمن واجبات السلطات الأمنية.
وتستفيد المعارضة من شبه إجماع اللبنانيين على الحق بالتظاهر، وخصوصاً أن كثيرين تقدموا في العمر، وما زالوا يحتفظون بذكريات «شارعية» غالباً ما تجعلهم يشتهون العودة إلى تلك المساحات، لكن مع شعارات الماضي وليس الحاضر. يختصر أحد سائقي الأجرة، ويدعى عماد حزوري، ذكرياته بالقول: سارعنا إلى استنساخ ما نستطيع من أجواء الثورة الفرنسية حيث «ممنوع المنع» و«المعتدي ليس من ينتفض بل من يقمع». وامتلأت الشوارع بالشباب، تارة يجتمعون في تظاهرات مطلبية مشتركة، يهتفون بحماسة «يا دركي ابنك معنا، زت سلاحك والحقنا»، وطبعاً «خبز وعلم وحرية». ثم يفترقون عائدين إلى قضاياهم الخاصة. هنا يسار يصرخ «فدائية فدائية، ثورة ثورة شعبية»، «من قهري ومن جوعي بدي أعمل شيوعي». وهنا يمين يرد «الجيش هو الحل»، «الفلسطيني الجيّد هو الفلسطيني الميّت»، و«أمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار». وينهي السائق كلامه متنهداً ومتحسراً على تلك الأيام ومتذكراً انطلاقة الحرب.
زادت الحرب مساحة الافتراق بين «الثوار» وانقطع التواصل. فلم يبقَ إلا بعض الذكريات التي يحفظ كل تفاصيلها كريم بقرادوني ونصير الأسعد وأنطوان دويهي وميشال سماحة وبول شاوول وشربل داغر وسيمون كرم وأحمد بيضون ومعن بشور وسعد الله مزرعاني وعصام نعمان وعصام خليفة وفوّاز طرابلسي وشارل غسطين، وغيرهم العشرات من الطلاب السابقين الذين صنعوا العلاقة المميزة بين الشعب اللبناني والشارع. وهؤلاء يجمعون على القول إن تظاهرات الأمس بالاتجاهين، السياسي والمطلبي، كانت تؤتي ثمارها. ويؤكدون اتفاقهم على كثير من النقاط واختلافهم على القليل منها، ويشيرون إلى أن اختلافهم كان راقياً، ومغايراً لخلافات سياسيّي اليوم. حين يُسألون عن الأمس، يسترخون في كراسيهم، تبرق عيونهم عاكسة مزيجاً من الحسرة والفرح، ولا يعرفون من أين يبدأون الكلام.
بالنسبة إلى رئيس مصلحة الطلاب السابق في الكتائب اللبنانية الوزير السابق ميشال سماحة، عكست تظاهرات الأمس علاقة ودية بين كل الطلاب على قاعدة الاعتراف بالآخر والعمل معه على أسس نقابية، وهي بذلك تكاد تتناقض مع الحركة الطالبية اليوم التي تتأسس على الانتماء السياسي الضيق ورفض الآخر. من تلك المرحلة، يذكر سماحة اجتماعات الكتائبيين والشيوعيين والاشتراكيين للتداول في الأمور المشتركة أكثر مما يذكر اجتماعات الكتائب الخاصة. ويردد أسماء أماكن ثقافية، كان يرتادها جميع المختلفين في الآراء السياسية، من «الندوة اللبنانية» إلى «النادي الثقافي العربي» و«نادي متخرجي الجامعة الأميركية في بيروت»... وهذه جميعها، بحسب سماحة، ولّت إلى غير رجعة.
وفي سياق الحسرة نفسها، يستعيد الوزير السابق محمد عبد الحميد بيضون صورة أهم تظاهرة شارك فيها بتاريخ 23 نيسان 1969 للدفاع عن المقاومة الفلسطينية. ويذكر إطلاق النار على المتظاهرين، وإصابة غالبية المشاركين في الصفوف الأولى. وينتقل منها إلى تظاهرات عدة أخرى، معتبراً أن الانقسام حول المقاومة هو نفسه بالأمس واليوم. ويأسف لتكرار الشعارات نفسها دون تقويم فعلي لما حصل. وعن رغبته في المشاركة مجدداً، يفاجأ بيضون بالسؤال، مردداً أن «الشارع للشباب وليس لنا».
لكن رئيس حزب الكتائب كريم بقرادوني يخالف بيضون الرأي. ويرى أن الشارع بالنسبة إليه، تعبير فكري وثقافي. ويبدي بقرادوني ارتياحه الكبير لكلّ تحرّك، وشعوره بالانتماء إليه سواء شارك مباشرة أم لم يشارك. ويلفت إلى تحقيق الحركة الطالبية في أواخر الستينيات وبداية السبعينيّات إنجازات كبيرة على صعيد الجامعة اللبنانية وخصوصاً إنشاء الكليات التطبيقية فيها. وتتميز تلك التظاهرات، بحسب بقرادوني، بتنظيم الخلاف والتحكم به. ويذكر في هذا السياق إحدى التظاهرات التي شاركت فيها مختلف القوى السياسية للمطالبة بتعزيز ميزانية الجامعة اللبنانية والمدرسة الرسمية، وأثناء توجهها نحو السرايا الحكومية، رفع البعض شعارات تتعلق بالقضية الفلسطينية. الأمر الذي خلق بلبلة انتهت بالاتفاق على إعادة الشعارات الفلسطينية إلى الصفوف الخلفية، وتقديم الشعارات المطلبية إلى الصفوف الأمامية. وانتهت التظاهرة على خير.
لا شيء يوازي حماسة رئيس حزب الكتائب للتظاهر إلا حماسة معن بشور الذي يؤكد أن أجمل ذكرياته تتمثل بمشاركته، على الرغم من صغر سنّه، في «الثورة البيضاء» التي بدأها سبعة أو ثمانية نواب وأدّت إلى تغيير رئاسي. ويلفت إلى نقطة سلبية في التظاهرات التي سبقت الحرب تتمثل بالمظاهر المسلحة. ويؤكد استعداده للمشاركة في التظاهرات الآتية.
وضمن الاشتياق نفسه إلى تلك المشاهد، يتحدّث رئيس منظمة الطلاب في حزب الوطنيين الأحرار السابق شارل غسطين، عن إجماع الطلاب من مختلف الاتجاهات السياسية على المطالبة بشؤون كثيرة تعنيهم. ويلفت إلى فرادة المحاضرات التي كانت تجمعه وممثلين عن أحزاب يسارية، تنتهي بالتوافق على نقاط عدة، مشيراً في السياق نفسه إلى استيضاحه وميشال سماحة مرات عدة من حزبيهما حول العلاقات التي نسجاها مع الأفرقاء الآخرين. ويتحدث غسطين عن حنين كبير إلى تلك الأيام، منوهاً بتجربة عاشها قبل ثلاث سنوات، حين دعته الجامعة الأميركية في بيروت وعدد من قياديي الطلاب السابقين في الأحزاب الأخرى إلى ندوة عرضوا فيها لتجربتهم.
أما الدكتور عصام خليفة، أحد مؤسسي حركة الوعي التي رسمت مجموعة من «الصدمات» الطالبية في نهاية الستينيّات وبداية السبعينيّات، فيستمر في السياق الثوري نفسه مؤكداً أن نوعية الطلاب اختلفت. فلم يكن الطلاب سابقاً قطعاناً تُساق يميناً ويساراً، بل مواطنين لديهم مطالب مشتركة لا يتردّدون في الدفاع عنها والتظاهر لأجلها. وعن رغبته في المشاركة بالتظاهرات الآتية، يقول خليفة إنه لن يكتفي بعدم المشاركة، بل سينظم تظاهرة ثالثة ضد الفريقين المتصارعين، وسينزل إلى جانبه كل المعنيين بقضايا الناس العاديين.




في السياسة
«يا ما طارت حكومات»



يُسجَّل للتظاهرات السياسية نتائج عدة، أبرزها في مرحلة ما بعد الاستقلال: إطاحة الشارع برئيس الجمهورية بشارة الخوري في 18 أيلول 1952، إثر دعوة كمال جنبلاط باسم الجبهة الاشتراكية إلى إضراب عام في كل لبنان يومي 15 أيلول و16 منه لإجبار الرئيس على الاستقالة. ولاحقاً، حصلت تظاهرات شعبية ضخمة معترضة على سياسة الرئيس كميل شمعون في عامي 1957 و1958، كان أبرزها في 30 أيار 1957 حين أصيب رئيس الحكومة السابق صائب سلام بطلق ناري.
وفي 23 نيسان 1969، أدّت تظاهرة القوى اليسارية اللبنانية والأحزاب الفلسطينية إلى استقالة الرئيس رشيد كرامي، وخصوصاً بعد أن سقط في التظاهرة أحد عشر شهيداً و82 جريحاً. ثم في أيلول 1974، أُرغمت حكومة الرئيس تقي الدين الصلح على الاستقالة، بعد تظاهرات الاتحاد العمالي العام الذي طالب بزيادة الحد الأدنى للأجور 15 في المئة.
وبعد شهور على فرض اتفاق الطائف، سقطت حكومة الرئيس عمر كرامي تحت وطأة «ثورة الدواليب» في 6 أيار 1992. لتغيب بعدها التظاهرات السياسية القادرة على إسقاط الحكومة حتى عام 2005، حين أرغم الرئيس كرامي مرة أخرى على تقديم استقالة حكومته في 28 شباط 2005، بعد التظاهرات التي ملأت ساحة الشهداء.
وذلك بالرغم من أن الحكومة كانت تحظى بثقة المجلس النيابي.
وتجدر الإشارة إلى عدم قيام المجلس بحجب الثقة عن أية حكومة منذ الاستقلال. وحين اعترضت الطائفة السنية على تمثيلها في حكومة الرئيس أمين الحافظ، قدم الأخير استقالته مستبقاً حركة الشارع، مقتدياً بسلفه صائب سلام الذي قدم استقالته طوعاً ومباشرة إثر عملية الكومندوس الاسرائيلي التي أودت بحياة ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية في منطقة فردان في بيروت في نيسان 1973. ويُلاحظ أن أول حكومة عسكرية شُكلت في عهد الرئيس سليمان فرنجية، برئاسة العميد نور الدين الرفاعي، لكنها قدمت استقالتها بعد 68 ساعة في الجلسة الوحيدة التي عقدتها في أيار 1975، بسبب انطلاق أعمال العنف دون قدرة الحكومة على لجمها.