نقولا ناصيف
مع أن الحادث الأمني الذي وقع السبت الفائت (30 أيلول) في الطريق الجديدة بين منتمين الى «تيار المستقبل» وحركة «أمل» لم يكن أكثر من تعبير عن حجم الاحتقان في شارعي الطرفين، ولم يتخطَّ كونه إنذاراً ليس إلا، فإن أوساط الطرفين تقلل من أهميته لسببين على الأقل: أولهما أن أياً منهما ليس في وارد الخوض في فتنة مذهبية وليس في وسعه حمل وزر قرار كهذا، وثانيهما أن الجهة الأمنية المعنية بفرض الأمن بالقوة على أنصار هذا الفريق أو ذاك هي الجيش اللبناني. ولعلّ اقتناع الطرفين بالاحتكام الى الجيش بعدما استدعيت قوى الأمن الى ساحة الاشتباكات هو الدافع الرئيسي الى عدم الذهاب أبعد مما حصل. وهما بذلك يتفقان على تقويم مشترك لما حدث في الطريق الجديدة، على أنه ليس مؤشر صراع مذهبي آت.
ما حصل السبت الفائت كان جزءاً من واقع تردٍّ آخذ في التدهور يسود العلاقة بين «تيار المستقبل» والفريق الشيعي بشقيه «حزب الله» وحركة «أمل». لكنه أبرز أيضاً أن المسألة الأمنية، منذ بدأت حرب 12 تموز وحتى انتهائها، كانت وحدها خط الاتصال المفتوح بين الطرفين بغية التنسيق تفادياً لأي حادث أمني كان متوقعاً آنذاك في أي وقت نظراً الى الواقع الذي نشأ عن تهجير ألوف السكان الشيعة من جهة، وتحت وطأة تشنج سياسي ظاهر، ومذهبي كامن، ولّدته تلك الحرب وساهمت المواقف السياسية المتعارضة في الأيام الأولى منها في تسعيرها. وسرعان ما ساهم الحوار الأمني الذي أجراه ممثلان عن «حزب الله» و«تيار المستقبل» على امتداد ثلاثة أسابيع في فتح منافذ على حوار سياسي استمر حتى 27 أيلول الماضي بحثاً عن إطار تفاهم محتمل يتجاوز انهيار الثقة بين هذين الفريقين منذ بدأت الحرب الإسرائيلية. وفي ضوء سلسلة اجتماعات بين المتحاورين، وهما من الوثيقي الصلة بالأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله ورئيس الغالبية النيابية سعد الحريري، توصلا الى بضعة أفكار تمهّد تدريجاً لمعاودة الحوار على مستوى رفيع، توطئة لاجتماع بين نصر الله والحريري. وتركزت هذه الأفكار على:
ــــــ وقف التعرّض للرموز من الطرفين.
ــــــ اللجوء إلى التهدئة في وسائل إعلامهما ووقف الحملات المتبادلة لتخفيف الاحتقان في الشارع.
ــــــ وضع تصور مدوّن يكون أشبه بمذكرة تفاهم على غرار تلك التي جمعت في 6 شباط الفائت نصر الله والرئيس ميشال عون، يحدّد القواسم المشتركة بين «حزب الله» و«تيار المستقبل»، على أن يكرّس هذا التفاهم اجتماع نصر الله والحريري.
لكن الخطاب الذي ألقاه رئيس الغالبية النيابية في إفطار قريطم مساء 27 أيلول نسف كل هذه الجهود، وتحديداً الهدنة التي سبقت «مهرجان الانتصار» الذي نظمه «حزب الله» في 22 أيلول. وتعزو أوساط الفريق الشيعي انهيار الحوار السياسي الى:
1 ــ أن كلاً من الحريري ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة كانا قد وجّها رسائل الى نصر الله عشية 22 أيلول داعيين إياه الى التهدئة ومخاطبة الألوف بلغة لمّ الشمل في سياق مواجهة النتائج التي ترتبت على حرب 12 تموز، وإعادة الاستقرار الى الحياة السياسية اللبنانية.
2 ــ فوجئ الفريق الشيعي بعد 48 ساعة على «مهرجان الانتصار» بإطلاق كل من رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط من المختارة ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع من حريصا، في 24 أيلول، حملات عنيفة على الأمين العام لـ«حزب الله» عكست نقضاً لمراحل متقدمة كان قد قطعها المتحاوران باسم نصر الله والحريري. وإذ تجاهل «حزب الله» ردي فعل جنبلاط وجعجع اللذين يتصرفان على أنهما المتصلبان رأس حربة قوى 14 آذار، فإن إفطار قريطم بدا أكثر إقلاقاً للفريق الشيعي نظراً الى خصوصية ظلت حتى قبل الحرب الإسرائيلية على لبنان تجمع بين الزعيمين الشيعي والسني. وخلافاً لحوار مقطوع بكليته بين نصر الله وكل من جنبلاط وجعجع خارج طاولة مؤتمر الحوار الوطني، فإن نصر الله والحريري التقيا مراراً لساعات طويلة قبل أن يفترقا على أكثر من تباعد في وجهات النظر. باتت خيارات كل من الطرفين وجهاً لوجه، وتكاد توصد أبواب المصالحة بينهما.
3 ــ في تقدير الفريق الشيعي أن الغالبية تنتقل من مرحلة إسقاط الشراكة (التحالف الرباعي) التي نشأت عن انتخابات 2005 وتأليف الحكومة الحالية الى مرحلة أكثر تقدماً هي إلغاء هذا الفريق، عكستها سلسلة أقاويل تصل الى مسامع الحزب منسوبة الى الحريري في الإفطارات الأخيرة، ومن بينها قوله إنه سيكون ثمة حل ما للحزب وسلاحه في غضون ثلاثة أشهر، الأمر الذي يحمل الفريق الشيعي على التوجس والاعتقاد بوجود خطط جديدة لمواجهة سلاح «حزب الله» في موازاة تنفيذ القرار 1701 الذي لم ينص في أي حال على هذا الجانب من المشكلة.
مفاد ذلك أنه لا أحد من الطرفين يتوقع من الآخر أن يطرق بابه، إلا أن ذلك يمهّد لمزيد من تصعيد التشنّج. وخلافاً لما عمد اليه الحزب في السجالات الداخلية بتحييده رئيس الغالبية عن الأفرقاء الآخرين في 14 آذار، بات الحريري يسدّد انتقادات مباشرة وعنيفة الى نصر الله من غير أن يسميه.
أما مآل ذلك، فهو الانتقال بالمواجهة الى نطاق آخر انطلاقاً من اعتقاد الفريق الشيعي بأن المبادرة هي في يد المعارضة التي تضمّه وعون وسائر الأحزاب خارج الائتلاف السياسي الحاكم. وهي المعنية بوضع آلية دفع الحكومة الى أحد خيارين يقودان الى الهدف نفسه، تعديلها أو إبدالها بحكومة وحدة وطنية، عبر الوسيلة الوحيدة المتاح الآن، وهي الشارع.
والواقع أن اللبنانيين خبروا أكثر من شارع في أكثر من أزمة، وكل منها بأبطاله وقضيته مثّل نموذجاً لمواجهة مفتوحة. خَبِروا شارعاً أسقط حكومة الرئيس عمر كرامي في 28 شباط 2005 كما أسقط من قبل حكومته الأولى في 6 أيار 1992. وخَبِروا شارعي 8 آذار و14 آذار 2005، وشارع 5 شباط 2006 في الأشرفية عندما هاجم متشددون سنّة بعض أحيائها المسيحية وأمعنوا فيها تخريباً، وشارع 6 حزيران عندما غضب أنصار «حزب الله» من برنامج تهكّم على الأمين العام لـ«حزب الله» في برنامج «بسمات وطن» فطاول الأمر اعتداءً على أحياء مقابلة للضاحية الجنوبية، وشارع 8 أيار عندما نفّذ الفريق الشيعي والتيار الوطني الحر تظاهرة مناوئة للحكومة احتجاجاً على المعالجات الاقتصادية.
فأي من هذه ينتظر الغالبية الحاكمة وحكومة السنيورة بعد عطلة الفطر؟