ابراهيم الأمين
الكل يسير بخطى حثيثة نحو مواجهة حتمية، رغم الهدوء الذي لجأت إليه قوى الأكثرية بعد أسبوع من الصراخ الذي يتواصل من وسائل الإعلام المملوكة منها أو الخاضعة لنفوذها. وأحاديث الغرف المغلقة باتت حكايات لا يعرف من أين تبدأ وأين تنتهي. ولكن يبدو أن خطاب النائب سعد الحريري في اول إفطار سياسي له فرض تحولات كبرى على الوقائع السياسية ولا يمكن أحداً أن يتجاهلها.
في تلك الليلة، خرج رئيس الحكومة فؤاد السنيورة من قريطم متوجهاً إلى عين التينة، وعقد اجتماع عمل مع الرئيس نبيه بري كان الهدف منه تسوية مشكلة الأمن العام ومشكلة الأموال المفترض البدء بإنفاقها لإطلاق عملية إعادة إعمار ما هدمته الحرب الإسرائيلية على لبنان. وكان اللقاء مناسبة ليبادر رئيس الحكومة إلى لفت انتباه رئيس المجلس إلى ضرورة التركيز على الجزء الثاني من خطاب الحريري، “فهو لا يريد مشكلة مع أحد، ولكنه مضطر لملء الفراغ ولتثبيت الموقف من الموضوع الحكومي ولمخاطبة جمهوره بقصد تنفيس الاحتقان لديه، ولكن المهم هو رسائل الحوار التي أرادها”.
لكن رئيس المجلس الذي اهتم أولاً بإنهاء أزمة “الربط الإلكتروني” للأجهزة الأمنية، ومباشرة الحكومة خطوات إعادة الإعمار لم يكن كثير الإعجاب بما قاله الحريري، كما لم يكن قبلاً معجباً بما أعلنه سمير جعجع في قداس حريصا، وخصوصاً مقارنته عين الرمانة حيث قتل الفلسطينيون وقتل لبنانيون، بما جرى في مارون الراس بوجه العدو الإسرائيلي. لكن بري الذي ينظر بقلق بالغ إلى ما يحصل، يظهر خشية خاصة إزاء محاولات أعداء حقيقيين للبلاد لخلق فتنة سنية ـــ شيعية، وهو كان كثير القلق إزاء ما حصل في ملاعب كرة القدم وفي منطقة المزرعة قبل أيام.
يعود بري قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى يوم عودته من سفر استمر أكثر من أسبوع، عندما وجد أن النقاش في ملف الأمن العام وإعادة الإعمار ساخن، وهو بدأ يرتاب في كثير من الخطوات التي اتخذها فريق الأكثرية. ومع ذلك، فقد وجد ضرورة للتدخل سريعاً. ومساء الخميس الذي سبق يوم الجمعة حيث احتفل حزب الله بالنصر على الاحتلال، استقبل رئيس الحكومة فؤاد السنيورة وسأله عما يحصل بين الأجهزة ولماذا لم يُصَر إلى تفاهم على حل المشكلة بطريقة عقلانية، كما سأله عن سبب التأخر في صرف الأموال الخاصة بإعادة الإعمار. وبعد نقاش غير قصير خرجا باتفاق يقول بأن رئيس الحكومة سوف يستدعي قادة الأجهزة الأمنية إلى اجتماع ويطلب منهم وضع مقترحات عن أفضل السبل للتعاون في ما بينهم. كما تلقى منه وعداً ببدء إنجاز الملفات المالية الخاصة بإعادة الإعمار. انتهى الاجتماع سريعاً وشعر رئيس المجلس بأن الامور تسير نحو الأفضل. ولم تمض ساعة على انتهاء الاجتماع حتى فكر بري بالخطاب الذي سيلقيه السيد حسن نصر الله في اليوم التالي. وكان بري الذي يعرف الأجواء والخلفيات والمناخ المحتقن يخشى انفجاراً سياسياً كبيراً، فاتصل بمساعديه وأبلغهم بضرورة إعداد اجتماع عاجل مع السيد نصر الله. ولم يمض الوقت الكثير حتى بوشرت الترتيبات وانتقل بري في ظروف سرية إلى مكان حيث كان نصر الله في استقباله.
عناق وقبلات وروايات من أيام الحرب ونكاتها وسلام وسؤال عن الأهل والأصحاب ثم نقاش في صلب الموضوع. كان السيد محتقناً للغاية، لم يكن كعادته، وهو يشعر بالسوء من الغدر والطعن واستمرار الخديعة والأذى. لكن الموقف يتطلب معالجة. قال بري: هل تتذكر يوم جلسنا بعد انسحاب إسرائيل في العام 2000، وقلت لك: لقد أقدمنا على خطوة تتجاوز قدراتنا وفيها جرعة زائدة من البطولة. وإن إسرائيل باشرت العمل للانتقام منا؟ رد السيد بإيجاب، ليتابع بري: اليوم أنت زعيم كبير في العالم العربي والإسلامي وشخصية عالمية كبيرة جداً، ولكن بلدنا له قواعده الخاصة. والمهم أن هناك من يريد أخذنا إلى حيث لا نريد. وأتمنى عليك غداً ألّا تدخل في التفاصيل اللبنانية، والعالم ينتظر ما سوف تقوله. فرد نصر الله: ولكن هل ترى ما الذي يفعله هؤلاء، وأخيراً ملف الأمن العام وملف الإعمار وأمور أخرى؟ فأجابه بري: لقد سوّيت هذه الأمور قبل أن آتي إليك مع رئيس الحكومة وكل شيء يسير بالاتجاه الصحيح. وانتهى النقاش الذي شمل أموراً أخرى باتفاق على أن يبتعد السيد في خطابه عن ملف النزاعات الداخلية.
عاد بري بعد الواحدة فجراً إلى منزله، وقال له مساعدوه إن وزير الصحة محمد خليفة اتصل أكثر من مرة وبدا ملحاً. رد بري بان الصباح رباح. وفوجئ في اليوم التالي بما حصل في مجلس الوزراء وكيف تجاوز السنيورة ما اتفق عليه وبما صدر عن الوزير أحمد فتفت بحق المدير العام للأمن العام اللواء وفيق جزيني. لم يقدر على ضبط أعصابه وبعث إلى السنيورة يقول له صراحة: «أنتم لا تعرفون ماذا تفعلون، ولكن للصبر حدود»، وأضاف بعصبية يعرفها السنيورة وغيره: «لم يولد بعد من يقوم بهذا الأمر، وأنا أقول لكم فليأت الأمنيون من عند فتفت وليأخذوا جزيني من مكتبه إلى القضاء وساعتها نرى. ثم بعث إلى جزيني بضرورة عدم الرد على القرار والاستمرار في عمله وتكريس قاعدة أن تؤدى له التحية كلما يأتي صباحاً إلى مكتبه.
كان على بري متابعة الأمر من خلال مساعديه، ولكن جاءه من جانب نصر الله من يقول له: السيد يبلغك بأنه صار في حل من التعهد بعد الذي قام به فريق الأكثرية.
في اليوم التالي استمع بري إلى نصر الله ولم يكن يتوقع ما هو أقل حدة، ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتصل أولا وآخراً بما يجب فعله لمواجهة المضاعفات، وخصوصاً أن رئيس المجلس خبر فريق الأكثرية طوال 34 يوماً من الحرب القاسية ويعرف الكثير عمّا يفعلون وعمّا قاموا به في أمور كثيرة. ولكنه يعرف أيضاً أنه لا بد من العودة إلى الحوار، وإن كانت فرص التوافق تضيق، وأن البلاد تُقبل سريعاً نحو مواجهة لـ«تصحيح خلل قائم» في السلطة ومؤسساتها.
(غداً: إلى السعودية دُر!)