ابراهيم عوض
قضية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية لا تنتهي فصولاً. فمع تأكيد دمشق أكثر من مرة عدم وجود أي موقوف لبناني لديها عدا المحكومين الجنائيين، تطلع أصوات لبنانية لتعلن العكس. أين الحقيقة في هذا الملف؟
  • الرئيس رفيق الحريري حذّر عام 2000 من الاستغلال السياسي لأرقام السجناء
  • عادت قضية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية الى التداول في الأسبوعين الماضيين بعد مطالبة رئيس كتلة التغيير والإصلاح النيابية النائب ميشال عون ورئيس الهيئة التنفيذية لـ«القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع دمشق بإطلاق الموقوفين لديها وإقفال هذا الملف، فيما كرر مسؤول سوري بارز لـ«الأخبار» نفيه وجود أي معتقل سياسي لبناني في سوريا، موضحاً أن الموقوفين اللبنانيين في السجون السورية يقضون أحكاماً صادرة بحقهم لارتكابهم جرائم جنائية.
    وترى أوساط سياسية لبنانية متابعة لهذا الملف ضرورة وضع حد نهائي له عبر الإعلان صراحة وبشكل رسمي من الجانب السوري عن حقيقة الأمر، مقترحة أن يتم ذلك من خلال اللجنتين اللبنانية والسورية المكلفتين البحث في هذه القضية واللتين شكلتا بعد تولي الرئيس فؤاد السنيورة رئاسة الحكومة وعقدتا أكثر من اجتماع في هذا الخصوص. ويقول رئيس اللجنة اللبنانية، المدعي العام في بيروت القاضي جوزف معماري لـ«الأخبار» إن الاجتماعات بين اللجنتين توقفت قبل أشهر على أمل مواصلتها بعد عيد الفطر فيما عمل اللجان مستمر، مشيراً الى أنه لم يتحقق أي شيء حتى الساعة. ورداً على سؤال عما إن كان اطلاعه ومتابعته للموضوع شكلا لديه قناعة بوجود معتقلين لبنانيين في سوريا أجاب بأن المسألة «لا تبنى على قناعة أو ما شابه بل على معلومات ولوائح بحوزتنا نعمل على التحقق منها»، معتبراً أن التجاوب السوري والقبول بتشكيل لجنة خاصة لهذه القضية يعززان لديه الأمل بالتوصل الى نتيجة معينة.
    وكانت قضية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية شكلت منذ عام 2000 مادة رئيسية في السجال السياسي تعلو وتيرته وتخفت وفقاً لاستخدام قوى وأطراف محلية هذا الملف. ففي نهاية عام 2000، وبمبادرة من الرئيس السوري بشار الأسد، تسلمت السلطات اللبنانية من السلطات السورية جميع المعتقلين السياسيين اللبنانيين الموجودين لديها وعددهم 54 وفق ما أعلنه الجانب السوري، كما تسلمت لائحة بأسماء الموقوفين بجرائم جنائية الذين لا يتجاوز عددهم المئة مع ملف كل منهم، جرى التداول في شأنهم خلال زيارة قام بها آنذاك الى دمشق وفد لبناني رفيع ضم النائب العام التمييزي القاضي عدنان عضوم والمدير العام للأمن العام اللواء الركن جميل السيد والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء الركن مروان زين ومدير المخابرات في الجيش العميد ريمون عازار التقوا خلالها رئيس شعبة المخابرات العسكرية في سوريا اللواء حسن خليل. ويروي عضوم في هذا الإطار أنه نتيجة إلحاح الوفد اللبناني على المسؤول السوري للتأكد من عدم وجود أي معتقل سياسي لبناني في سوريا، رد اللواء خليل بالقول: «هل تريدون منا أن نجمع الناس من الشارع لنعلن أن لدينا موقوفين؟ اتصلنا بكل المحافظات وطلبنا إيداعنا لائحة بأسماء الموقوفين اللبنانيين في كل محافظة قبل إجراء عملية التسليم، وتأكدنا من خلو سجوننا من أي موقوف سياسي لبناني عدا المحكومين بجرائم جنائية».
    وتذكر الأوساط السياسية اللبنانية المتابعة هنا أنه قبيل ساعات على عملية تسلم لبنان الموقوفين اللبنانيين في سوريا بدأ «إطلاق النار» السياسي عليها وظهرت لوائح تتضمّن أسماء سجناء ومفقودين يراوح عددهم بين 250 و270 شخصاً، الأمر الذي دفع بالرئيس الراحل رفيق الحريري الى الخروج عن نص خطاب كان يلقيه في حفل إفطار رمضاني لدار الأيتام الإسلامية (غروب 12\12\2000) محذراً من التداول في أعداد كبيرة للسجناء اللبنانيين في سوريا تختلف عما هو موجود فعلاً، قائلاً: «إن هذا الأمر يعلم مطلقوه أنه غير دقيق ومعالجته بهذا الشكل ستفتح دفاتر الحرب الأهلية كلها». وأوضح الحريري في خطابه أيضاً «أن الإخوان في سوريا قرروا إطلاق سراح كل الذين لديهم من أشخاص قاموا بأعمال ضد الجيش السوري والدولة السورية وهم في حدود 54 شخصاً أو ما يقل أو يزيد عن ذلك بقليل». كما استهجنت دمشق يومها ما سمّته «نكران الجميل» تجاه المبادرة السورية وتساءل مصدر سوري كبير («الشرق الأوسط» 29/12/2000): «هل أصبحت سوريا مسؤولة عن كل المجازر التي ارتكبت في لبنان خلال الحرب من «السبت الأسود» و«الكرنتينا» و«تل الزعتر» وصولاً الى مجازر الجبل؟».
    وإزاء تصاعد الأصوات المطالبة بإطلاق بقية المعتقلين اللبنانيين في سوريا لم يكتف الحريري بالموقف الذي أعلنه في حفل الإفطار وما صدر من ردود فعل سورية، فألّف لجنة وزارية خاصة بالمفقودين اللبنانيين جراء الحرب وكذلك بالمعتقلين في السجون السورية رأسها الوزير السابق النائب فؤاد السعد وضمت في عدادها النائب العام التمييزي القاضي عدنان عضوم وقادة الأجهزة الامنية وممثلين عن نقابتي المحامين في بيروت والشمال.
    ولا يبدي السعد حماسة في الحديث عن اللجنة وما حققته من نتائج ويؤكد لـ«الأخبار» أن كل ما لديه في هذا الخصوص قاله في مقابلات صحافية، لافتاً الى أن جميع الملفات المتعلقة بعمل اللجنة من مقابلات مع ذوي المفقودين والمعتقلين وإفادات ومعلومات وضعت داخل صناديق وسُلمت الى القاضي عضوم. ويرفض السعد تأكيد أو نفي وجود معتقلين لبنانيين في سوريا معلناً في الوقت نفسه أن المعلومات التي تجمّعت لديه خلال رئاسته اللجنة أفادت بوجود بعض منهم في مرحلة ما بعد عام 2000 إلا أنه لا يدري شيئاً عن مصيرهم.
    من جهته يفيد النائب ميشال موسى الذي تولى رئاسة اللجنة خلفاً للسعد أنه وجد نفسه أمام خيارين: إعادة النظر في الملفات والمستندات المودعة لدى النائب العام التمييزي، أو التأكد من جديتها وعدم الضرورة للقيام بإجراءات أخرى، وقد رجح الخيار الثاني بعد أن تبيّن له بوضوح أن ما قامت به اللجنة السابقة من الأهمية بمكان، وخصوصاً على صعيد المقابلات واللقاءات مع أهالي المفقودين مما يؤسس لمتابعة العمل في أكثر من اتجاه منها الاستعانة بمؤسسات دولية لزيارة السجون، «إلا أن حكومة الحريري التي كنت وزيراً فيها لم تعمر طويلاً ولم نتمكن بالتالي من تحقيق أي تقدم يذكر في هذا الملف».
    وبسؤاله عن التصوّر الذي تكوّن لديه مع تأكيد البعض وجود معتقلين لبنانيين آخرين في السجون السورية لم يفرج عنهم، قال موسى إنه يستحيل الجزم في هذه المسألة، ولا يخفى هنا تداخل السياسة بالأمن.
    بدوره أوضح عضوم لـ«الأخبار» «أن الصناديق والملفات التي تحدث عنها السعد سلمت الى رئاسة الحكومة عبر الأمين العام لمجلس الوزراء سهيل بوجي إذا لم تخنّي الذاكرة. وبالإمكان التأكد من صحة ذلك بالرجوع الى إيصال التسليم الذي يفترض وجوده في مكتب النائب العام التمييزي». ولفت الى أن وزير العدل بهيج طبارة رفض حينذاك تسلم الملفات وقال إنه لا علاقة لوزارته بهذا الموضوع. وأكد عضوم أن اللجنة التي رأسها سعد قامت بعمل جيد واستمعت الى عدد كبير من أهالي المفقودين وأصدقائهم، والروايات في هذه القضية لا تحصى ولا تعد. فهناك من قال إن ابنه خطفته «القوات اللبنانية» على حاجز البربارة في الشمال ولم يعد، وآخر أفاد بأن حاجزاً سورياً أوقف شقيقه ولم يعد يعلم عنه شيئاً، فيما آخرون نقلوا عن لبنانيين أو سوريين مشاهدتهم أقرباء لهم في السجون السورية، وهكذا بقيت الروايات تدور في حلقة مفرغة.
    وأمام هذه الصورة الضبابية في قضية المفقودين اللبنانيين والادعاءات بوجود عدد منهم في سوريا قال مسؤول سوري بارز لـ«الأخبار»: «للمرة الألف نؤكد أن لا معتقل سياسياً لبنانياً واحداً لدينا، وكل ما نسمعه من أطراف لبنانية في هذا الخصوص لا يعدو كونه حرتقات وافتراءات الغاية منها معروفة وواضحة وهي الإفادة من طنينها لاعتبارات ومصالح شخصية». وطالب المسؤول السوري البارز الباحثين عن المفقودين اللبنانيين بأن يتجهوا صوب «أمراء الحرب» في لبنان.