جوزف سماحة
القوة الدولية تلعب بالنار. تنسب إلى نفسها مهمات تكاد تحوّلها إلى قوات احتلال. تتجاوز القرار 1701 وما أعطي من تفسيرات له. توحي أنها نوع من الامتداد للعدوان الإسرائيلي. لا تبالي بالسيادة اللبنانية. تحصر دورها بحماية إسرائيل. تضرب على وتر حساس جداً في العلاقات الأهلية الداخلية. تكاد تبدو كأنها أداة تنفيذية لـ«حلف المعتدلين» في برنامجه الذي يريد إحلال الاحتراب محل الموقف من الاحتلالات.
الناقورة بلدة لبنانية وليست عاصمة القوة الانتدابية. والبيان الذي صدر عن «يونيفيل» من الناقورة أول من أمس يستدعي توضيحاً عاجلاً. ما معنى الحديث عن حق استخدام القوة في غير موضع الدفاع عن النفس؟ ما معنى الإشارة إلى «الحواجز المؤقتة»؟ ما معنى حق التصرف بناءً على معلومات خاصة إذا لم يستطع الجيش اللبناني التصرف؟ ما هو المقصود بـ«الأنشطة المعادية» التي يمكن القوة الدولية استخدام القوة ضدها؟
البيان المشار إليه يتضمن قراءة خاصة لقرار مجلس الأمن. أكثر من ذلك، يشكل هذا البيان تأكيداً لما يقوله إيهود أولمرت وكوندوليزا رايس من أن مهمة «يونيفيل المعززة» متدحرجة، ومن أن سلوك الغد سيختلف عن سلوك اليوم، وأن الأنياب والأظافر ستنبت لاحقاً، وأن لا علاقة لدور الغد بشروط الانتشار التي تم التوافق العلني عليها. يكاد البيان يقول «لقد انتشرنا بالحيلة ولكن غداً لناظره قريب».
لم يكن ممكناً المرور بلامبالاة أمام البيان. ولكن ما عزز الشبهة هو الكلام المنسوب إلى السفير الألماني الجديد في بيروت. ففي حوار أجرته الزميلة «النهار» ونشرته أمس يقول ماريوس هاس «حصلت ألمانيا على كل الضمانات التي كانت تحتاج إليها»، وبعد أن ينسب زوراً إلى القرار 1701 مطالبته بقوات بحرية، يضيف «ولكن الأهم بالنسبة إلى الحكومة أن تتمكن البحرية الألمانية من تنفيذ المهمة التي أوكلتها إليها الأمم المتحدة أي أن تستطيع في حال وجود شك ملموس القيام بعملها في كل المياه الإقليمية، وفي حال وجود إثباتات على تهريب السلاح من خلال ملاحقة المهربين بفاعلية. وبعدما نلنا الموافقة على التعاون مستقبلاً مع القوات البحرية اللبنانية نتمتع الآن بالقدر المطلوب من الفاعلية والتعاون للإيفاء بالتزام كهذا».
يتناقض كلام السفير هاس حرفاً بحرف مع ما قيل لنا عن توافق لبناني ــ ألماني ــ دولي خاص بمهمات البحرية الألمانية. قيل إن المياه الإقليمية تحت السلطة الحصرية للبنانيين. ها هو يقول العكس. قيل إن الألمان يستشيرون الجيش اللبناني قبل أي خطوة. ها هو يقول العكس. قيل إن التعاون مع البحرية اللبنانية فوري. ها هو يحيله إلى «المستقبل».
يعني ذلك، ببساطة، أن الألمان القادمين هم غير الألمان الذين كنا ننتظرهم. ويعني ذلك، أيضاً، أن هناك من خدعنا. لقد اضطرت الحكومة الألمانية إلى قول الحقيقة لبرلمانها على الأرجح من أجل أن تحصل على موافقته. ولكن، هنا، تبدو الحقيقة هي الضحية.
ثمة حديث معلن عن وجود مذكرة من 21 صفحة تحدد للقوة الدولية «قواعد الاشتباك». ولقد نشرتها «لوموند» في 24 من الشهر الماضي بعدما تردد جاك شيراك في إرسال جنوده ثم وافق بعد حصوله على ضمانات من هنا وبعد تعديلات أدخلت على «قواعد الاشتباك». إن المذكرة المشار إليها سرية حتى الآن رغم أنها تتناول موضوعاً في غاية الحساسية بالنسبة إلى اللبنانيين.
نشر هذه الوثيقة واجب وإلا كان ممكناً اتهام بعض اللبنانيين بالتواطؤ مع الأجنبي ضد لبنانيين آخرين. النشر فقط يضع حداً لنوع من الجدل ولو أن في إمكانه فتح باب النقاش واسعاً أمام سؤال مصيري: هل تتضمن «قواعد الاشتباك» هذه إشارة، مجرد إشارة، إلى احتمال، مجرد احتمال، أن تجد القوة الدولية نفسها في مواجهة مع خرق إسرائيلي ما للسيادة اللبنانية؟ نرجح أن لا ولكن يبقى من الأفضل تعليق الجواب في انتظار المزيد من المعطيات. وفي استطراد ذلك هل يمكن الجانب الفرنسي أن يطمئننا إلى أن دبابات لوكلير المنتشرة في الجنوب اللبناني ترافقها أنظمة دفاع جوي (صواريخ كروتال) أم هي انتزعت منها بناءً على طلب إسرائيلي احتج على هذه الخطوة غير الودية؟!
ما ورد في بيان «يونيفيل» وعلى لسان السفير الألماني يضعنا أمام واحد من احتمالين. إما أن الحكومة، أو الأكثرية الحاكمة ضمنها بالأحرى، على غير علم بـ«قواعد الاشتباك» المذكورة ونكون في هذه الحالة أمام قوات خارج نطاق السيادة اللبنانية. الاسم الفعلي عند ذلك هو: قوات احتلال. وإما أن الأكثرية المتنفّذة على علم ونحن، هنا، أمام تواطؤ مبين، أمام كتم معلومات عن المواطنين، أمام تآمر على لبنانيين آخرين.
إذا وضعنا التكاذب جانباً جاز لنا القول بأن أزمة ثقة عميقة تضرب العلاقات القائمة بين القوى المؤلفة للحكومة. يتعايش مشروعان يريد أحدهما «التذاكي» ويتصرف كأنه يلبس «طاقية إخفاء». إنه مشروع استئثاري داخلياً التحاقي خارجياً. وهو يستقوي بالاستئثار لمزيد من الالتحاق وبالالتحاق لمزيد من الاستئثار. يحلم ببلد لا وجود فيه لسواه. يقيم ربطاً محكماً بين الغلبة التي يمارسها وبين افتتانه بـ«حلف المعتدلين» ورغبته في أن يجاهر بذلك فيلاقي «الدعم» الممنوح له بقدر أكبر من السفور في حقيقة توجهاته.
لقد بات التكاذب شرطاً لاستمرار هذه التوليفة الحكومية الهجينة. ولقد آن لذلك أن ينتهي. لنواجه خلافاتنا بجرأة. لنحاول إنتاج التسويات المناسبة.
لقد قادتنا «ثقافة مرجعيون» مباشرة إلى «سلطة الناقورة». إن المال السيادي السائب يعلّم القوة الدولية الحرام. لذا يجب أن يكون معلوماً أن «قواعد الاشتباك» ليست حكراً على أحد.