نقولا ناصيف
وُضعت زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس للمنطقة منذ 3 تشرين الأول في سياق الأولويات الخمس المتدرّجة التي تشكّل محور السياسة الخارجية لواشنطن فيها، وكانت في صلب محادثات الوزيرة في مصر وفلسطين وإسرائيل وأخيراً العراق. والأولويات الخمس هذه هي: العراق، إيران، الصراع العربي ــ الإسرائيلي، لبنان، سوريا. ويلخّص تقرير ديبلوماسي أميركي رتّب هذه الأولويات مجموعة مقابلات وملاحظات لمسؤولين في وزارتي الخارجية والدفاع، تحدد المسار الذي تسلكه واشنطن في مقاربة علاقاتها بأربع من الدول الخمس هذه باستثناء المسألة الفلسطينية.
ويرسم التقرير الديبلوماسي الأميركي ملامح علاقة واشنطن بكل من هذه الدول على نحو يبيّن التفاوت في الاهتمام من جهة، ومن جهة أخرى النظرة المستقبلية الى الضغوط التي يمكن أن تمارسها، لدعم حلفائها فيها أو لتشديد القيود بغية دفع الدولة المعنية الى التكيّف مع الوجود الأميركي في المنطقة ومتطلباته. وهو مغزى ما يتوخى التقرير استخلاصه. وفي هذا الإطار بالذات، تحدّد الإدارة ما تريده من لبنان وسوريا في الآتي:
1 ــ ثمة إصرار من موظفين اثنين بارزين في الخارجية الأميركية على أن الرئيس جورج بوش «مهتم جداً» بلبنان، وأن دعم الإدارة لرئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة جدّي. وهي مصممة، استناداً الى مناقشة تدور بين مسؤوليها، على أن ترى ما تسمّيه «معادلة قوى جديدة» في الجنوب بفضل الانتشار الواسع النطاق للجيش اللبناني والقوة الدولية المعزّزة فيه. وتعتقد أيضاً أن مساعدتهما من شأنها أن تؤدي الى نشوء قوى سياسية جديدة تتخطى «حزب الله» الذي كان يستأثر بالسيطرة، ولا تحصر فيه الزعامة السياسية على هذه المنطقة من لبنان.
2 ــ إن التزام الرئيس الأميركي ترسيخ الديموقراطية في لبنان ينبغي ألا يؤدي الى اعتقاد «الفئة المسلحة» (أي الحزب) أن في وسعها الهيمنة على الأفرقاء الآخرين بفضل دعم غير محدود من إيران. بل يقتضي دعم الغالبية والحؤول دون السماح للفئة المسلحة ــ أياً يكن حجم التسلّح والدعم الخارجي اللذين تتلقاهما ــ بالسيطرة على قرار الأكثرية التي تمسك بالسلطة اللبنانية.
على أن مَن يسمّيه التقرير «المخيم الواقعي» في الإدارة ــ وهم الموظفون المتمرّسون والكثيرو الاطلاع على الوضع اللبناني ــ يُجمع على أن «الغبار لم يحطّ بعد» بالنسبة الى النتائج النهائية للحرب الإسرائيلية على لبنان. وينسب التقرير الى مسؤول في هذا المخيم قوله إنه «بينما كان العرب ينظرون الى حزب الله نظرة بطولية، استفاق كثيرون من الشيعة اللبنانيين من وطأة الضربة العسكرية الإسرائيلية عليهم. الأمر الذي يحتّم التعويل على فرص تخلّي قسم من هؤلاء تدريجاً عن هذا التنظيم»، في إشارة الى الآثار الإنسانية التي نجمت من تلك الحرب والتباطؤ في وصول المساعدات العربية والدولية، ومن الدول المانحة، الى الحكومة اللبنانية سعياً الى مضاعفة حالة تململ في صفوف السكان الذين طاولتهم الأضرار.
3 ــ بينما تتعدّد وجهات النظر داخل الإدارة الأميركية حيال طريقة التعامل مع سوريا، ليس ثمة إجماع على الحاجة الى تغيير السياسة الصارمة المتّبعة مع دمشق وتصعيد الضغوط عليها. وينسب التقرير الديبلوماسي الى مساعدين لوزيرة الخارجية الأميركية قولهم إن سوريا هي «كالشوكة في كل الاهتمامات الشرق الأوسطية لواشنطن». ويلاحظون في ضوء ذلك أن دمشق «لن تتقدّم في سلم الاهتمامات الى أعلى من المرتبة الخامسة»، ترجمةً لإصرار أميركي على مزيد من الضغوط على سوريا وفي الوقت نفسه تجاهل مصالحها في المنطقة. بيد أن هذا الاعتقاد، بحسب مسؤولين بارزين، لا يسري بالضرورة على الدول الأوروبية، ويعبّر هؤلاء عن توجّس الإدارة الأميركية من أن يعرض الأوروبيون على سوريا الدخول مجدّداً في الشراكة الأوروبية ــ المتوسطية التي توقف العمل بها على أثر اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري. ويخشى المسؤولون الأميركيون ظهور العرض الأوروبي الجديد الشهر المقبل، فيما يرغبون في تأخير مناقشته الى ما بعد صدور التقرير النهائي للجنة التحقيق الدولية المستقلة في كانون الثاني 2007. بيد أن ما يحول دون تشديد واشنطن ضغوطها على سوريا هو التباين القائم داخل الحكومة الإسرائيلية في شأن إعادة تحريك مسار التسوية السلمية في المنطقة، ومع سوريا خصوصاً، يقول التقرير الديبلوماسي.
أما عن المقاربة الأميركية لكل من العراق وإيران، فإن اختلاف أولوية إحداهما عن الأخرى لا يُسقط التأثير المتبادل، ويرى موظفون كبار في البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع أن الوضع في العراق بات «أسوأ وأخطر مما كان منتظراً»، وأن حظوظ نجاح الجهود الأميركية، حتى عند أولئك الذين يعكسون في الغالب انطباعات إيجابية وبنّاءة أكثر من الواقع القائم، هي «من صغيرة الى صفر، وفي أحسن الأحوال غير موجودة». وينسب التقرير الى مسؤولين أميركيين قولهم إن ثمة اقتناعاً لدى الإدارة بتوجيه الجهود في العراق نحو أمرين: أحدهما تصحيح الأخطاء التي ارتكبت، وخصوصاً إبّان تولي بول بريمر «حكم» العراق عام 2003، والآخر أن يظل الجيش الأميركي ممسكاً بالوضع الأمني الآخذ في التردي لئلا يفلت منه. لكن ما يبعث على القلق لدى موظفي وزارتي الخارجية والدفاع هو تدرّج هجمات «الإرهابيين» من الخارج الى الداخل على نحو مكّنهم من الاندماج مع السنّة العراقيين المناوئين للوجود العسكري الأميركي، وباتوا يتعاونون في اعتداءاتهم، الأمر الذي يشكّل في رأي الوزارتين «تهديداً مميتاً» للجهود الأميركية في هذا الإطار. وبعدما كان «الإرهابيون» هؤلاء على هامش الصراع الداخلي، أضحوا اليوم في صميمه، ويرون بغداد مفتاح نشاطاتهم بعيداً من الجنوب الشيعي والشمال الكردي. فيما ترى واشنطن نفسها ملزمة منع انهيار الحكومة العراقية وسقوط العاصمة في أيدي المتشددين السنّة.
أما عن إيران، فيلاحظ التقرير الديبلوماسي الأميركي أن المشكلة أقل وطأة، من غير أن يحجب ذلك اعتراف واشنطن بأن إيران خرجت أقوى وبثقة أكبر من حرب 12 تموز و«بكثير من نشوة الانتصار». ولكن ثمة قلقاً من نوع آخر يتربص بطهران هو الضرر الذي قد يصيبها به قرار مجلس الأمن الرقم 1696 (31 تموز 2006) المتعلق بامتثالها لطلب وقف برنامجها النووي. وإذ يلفت الموظفون الأميركيون الى «فرضية» توصّل الأوروبيين الى حل مع طهران حيال التخصيب النووي، يتوقفون عند ملاحظة تاريخية الدلالة، هي أنه كانت لواشنطن دائماً مشكلات مع إيران منذ وصول الثورة الإسلامية الى الحكم عام 1979، و«كنا كأميركيين نشعر دائماً بأننا الجانب القوي في هذه المعادلة»، وانقلب الأمر رأساً على عقب بعد احتلال أفغانستان والعراق نظراً الى الحضور الشيعي القوي والواسع النطاق في العراق، والتأثير الإيراني في البلدين معاً.