جوزف سماحة
«لو لم يكن الرئيس نبيه بري موجوداً لوجب اختراعه». لم يقل أحد من أركان الأكثرية المتنفّذة هذا الكلام عن رئيس المجلس ولكن ما قيل في امتداحه يتجاوز ذلك كثيراً. هذه عيّنة:
«قائد الخطوة الحضارية». «منقذ المؤسسات الدستورية من الشارع». «بطل الصمود السياسي مع الرئيس فؤاد السنيورة ضد العدوان». «أرسى بتوافقه مع سعد الحريري أساس اللقاء الوطني الذي يجمع القوى الأساسية». «أدى دوراً تاريخياً». «إنه مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري من بُناة اتفاق الطائف إضافة إلى أنه بنى الجنوب». «كان بعيداً في رؤية ما ستؤول إليه الأمور». «قام بعمل جبار». «يحمل في يده استمرار الاستقرار أو فقدانه». «الأمل الكبير معقود الآن على رئيس مجلس النواب نبيه بري». «صاحب النهج المميز»...
لم يبق واحد في «حركة 14 آذار» إلا كان له رأي إيجابي في نبيه بري، سواء لدعوته إلى الحوار، أو لأدائه خلال العدوان، أو لمبادرته إلى الاعتصام النيابي، أو لسلوكه بعد الحصار، أو لخطابه في صور... وليس مستبعداً أن تكون صحف اليوم زاخرة بمثل هذه المدائح. لقد وقع «الإخوة الآذاريون» في فتنة الرجل ورفعوه إلى مصاف إنقاذي يتعالى على الصراعات كلها، واكتشفوا له ماضياً تعرّض خلاله لمضايقات «النظام الأمني»، وركزوا على أدق خلافاته مع الرئيس إميل لحود. إنه، باختصار، الرجل المناسب في المكان المناسب في الوقت المناسب. وربما كانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس تحت تأثير هذه التقديرات عندما تفاءلت بما سمّته «الشرخ الشيعي».
صمتت أصوات الأكثرية المتنفّذة عن تمايزاتها مع بري الواقعي، مع بري الحقيقي، ولم تر فيه، وفي ممارسته لدوره الدستوري والسياسي والشعبي، إلا المرجع الذي يمكن عقد التسويات معه إنقاذاً للبلاد.
الأكثرية المشار إليها متهمة بأنها استئثارية في سياستها الداخلية والتحاقية في سياستها الخارجية. يركز «التيار الوطني الحر» على الجانب الأول أكثر من الثاني، ويركز «حزب الله» على الثاني أكثر من الأول. ويلتقي الطرفان عند المطالبة بتوسيع الحكومة لتصبح أكثر تمثيلاً وأكثر استقلالاً.
وليس سراً أن الأكثرية النيابية والحكومية ترفض أي مطلب تغييري معتبرة أن هذه الحكومة هي الأفضل على الإطلاق. ولا يتوانى البعض، حتى من تيار «المستقبل»، عن توجيه انتقاد غير مباشر إلى الرئيس الشهيد رفيق الحريري عبر وصف الحكومة الراهنة بأنها «الحكومة الاستقلالية الأولى». مطلب التوسيع مرفوض لأنه لا زيادة لمستزيد في ما هو أفضل من القائم.
وتصرّف الأكثريون بخفّة طفولية عندما ردوا على دعوة التوسيع المقرونة بالرغبة في تأمين ثلث معطل. لم يتوقفوا كثيراً عند الحق المطلق لأي طرف سياسي في رفع هذا الشعار واعتباره مدخلاً إلى جعل التوافق إلزامياً في القضايا المصيرية والوطنية الكبرى. لم يتوقفوا كثيراً عند ذلك لأنهم ذهبوا نحو اعتبار أن أي تطلّع إلى مشاركتهم في بعض سلطتهم هو دليل جشع وطمع، وهو سعي نحو أمور دنيوية تافهة. أن تكون السلطة كلها معهم فهذا دليل مسؤولية أما أن يريد آخرون ما يزيد على الثلث فهذا تمرّغ في وحل السياسة.
استحقت «مؤامرة الثلث المعطل» هجوماً من نوع خاص. قيل فيها كمّ من الشتائم لا يحصى: انقلاب، ترجمة لخطاب الأسد، رغبة في عودة الوصاية السورية، تعطيل للمحكمة الدولية، شلّ للسلطات، تسبب بالعجز، فراغ، «سلبطة»، تحكّم الأقلية، إسقاط للقرار 1701، اصطدام بالمجتمع الدولي، عمالة، «ريف دمشق»، إلخ...
إن أخطر ما يمكن أن يواجه لبنان، في هذه اللحظة، هو بقاء الرئيس فؤاد السنيورة على رأس حكومة ذات قاعدة تمثيلية أوسع. درء هذه النكبة مهمة وطنية عاجلة حتى لو أدى الأمر إلى أزمة مستفحلة. خلاص لبنان وديعة في يد هذه الأكثرية. وإذا كانت قد حصلت مجازفة بارتضاء وجود وزراء من أنصار «المحور» فلا مجال للقبول بوزراء من «التيار الوطني الحر» مثلاً.
في وصفها لهذا المشروع الانقلابي تعاطت الأكثرية مع الثلث المعطل كأنه كتلة واحدة. لا جيد ولا سيئ فيه. لا وطني ولا «محوري». لا لبناني ولا سوري أو إيراني. لا مسيحي ولا غير مسيحي. الثلث المعطل كتلة صمّاء. إنه حلف جهنمي يريد القضاء على استقلال البلد واحتمالات تجاوزه الأزمة وعودته إلى الاستقرار والازدهار.
تركز الهجوم الأكثري على الرئيس لحود وعلى الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله وعلى العماد ميشال عون. لكن الملاحظة التي تفرض نفسها أن أحداً من المهاجمين لم يتطرّق إلى الرئيس بري أو حركة «أمل». لا بل ساد انطباع، بعد خطاب صور تحديداً، بأن الثلث المعطل إنما يُراد منه تعطيل العمل الإنقاذي الذي تقوم به الشراكة الناشئة بين «14 آذار» ونبيه بري!
لا يحتاج أي متابع للحياة السياسية اللبنانية لأن يكون بنبوغ أنطوان أندراوس (لماذا هو بالتحديد؟) لكي يكتشف أن المطالبين بالثلث المعطل يعتبرون أن وزراء «أمل» ضمن هذا المثلث. يعني ذلك، على الأرجح، أنه لا مجال لثلث معطل من دون ممثلي الرئيس بري في الحكومة. والمقصود بالرئيس بري هنا هو نفسه الرئيس بري الذي أغدقت عليه الأكثرية المدائح التي استعرضنا بعضها.
لذا فإن السؤال الموجّه إلى هذه الأكثرية، من أجل أن تثبت أنها غير استئثارية، هو: هل هناك من يقبل تأليف حكومة وحدة وطنية يملك الرئيس بري ضمنها مفتاح الثلث المعطل؟ هل هناك من يوافق على حكومة تصحح التمثيل السياسي، وترفع الظلم، وتطمئن الجميع، ويتحول الرئيس بري فيها، مؤسساتياً، إلى حَكَم يمكنه توفير الثلث المعطل أو تعطيل هذا الثلث؟
نجزم بأن الأكثرية ترفض. ونستنتج من ذلك أمرين. الأول هو أن كل ما قالته في بري هو كلام لا يمكن صرفه سياسياً ولا البناء عليه. الثاني هو أن هذه الأكثرية استئثارية في ما يخص «التيار الوطني الحر» وتعاني، في الوقت نفسه، لأنها التحاقية، من عوارض استئصالية حيال «حزب الله».
إنها أكثرية تعتقد أن بري يشتري من بضاعتها. لها الحق في هذا الاعتقاد. لقد طبّقت هذا السلوك بنجاح على سمير جعجع. فقائد «القوات اللبنانية» مذهول حتى اللحظة بقدرة هذه الأكثرية على الجمع بين أمرين: الانبهار بالحشود في مهرجان حريصا ومطالبة هذه الحشود بأن تكتفي بـ... جو سركيس!