أنسي الحاج
لا يشفي من السرابِ الماءُ، بل سرابٌ آخر.
سرابٌ على ظهر الخراب. فوق مدى التيه. في صحراء البقاء.
جَسَدكِ المحجَّب بعري العينين، الشهيّ المأكول مثل كعكة القمر، جسدكِ الدنيا أمامه سرابٌ وهو سرابُ الدنيا.
لا يشفي من الحياة غيرُ شراب سرابك.


المتيَّم ابن يتمه، يُعطى ويُغْمَر ويظلّ يتسقّط بنَهَمٍ لا يُطاق، نهم الحَسَد المفتوح على أكثر مما في أرض ميعاد، على أكثر مما في قدرة إله أن يَعِد.
المتيَّم بشراب سرابها حتّى يدركهما الصباح، ثم تدركهما الظهيرة، ثم يدركهما الليل فالصباح فالظهيرة، والمولع المتيَّم لا يكبر، لا يموت، لأن المعشوقة عِنَبٌ في الليل وتفّاح في الصباح، تفّاح في الصباح وعنقود ضحّاك فوق الليل.
يَحْدث ذلك ولا لزوم لأن يُسأل الإنسان لماذا يَحْدُث له ما يحدث. لا يُسأل حتّى العارف. ومن العارف؟ نحن غبار الطَّلْع يَنْقُلنا الهواء. شجرة تأخذ من شجرة. اللقاح يَذْهب إلى الأشجار ولا تختاره الأشجار. الحبّ هو الهواء الناقل. الهوى هو الهواء. لا شيء غير الهواء. الباقي غبار الطَّلْع.
وما من ذَنْب على أحد. الخائن هو الهواء. والهواء لا هو غبار الطَّلْع ولا هو الشجرة. الهواء عنصرٌ لا يبالي بغير الهبوب.


أرواح عابثة تتراقص حول جسدكِ، تحفّ بأطراف ثوبكِ، تعطيكِ أشكال أمنياتي. أرواح الهشاشة النديّة الغلّابة، أرواح الغواية الكامنة تحت الخوف، والمراوَدَة المؤتزرة بالحشمة، والتهتُّك الملبّس بالحياء، والجمال المومئ إلى العورات، والخَفَر السابق للتلطيخ، وشهوة الخطيئة اللاحقة لشهوة الخطيئة.


بريئة أنتِ أم شيطانة؟ المجون منبعه ملتبس. بين الوَلْدَنة والشَّبَق طَرْفَةُ عين. مستغلّة؟ وَحْشَة؟ وما الفرق حتّى لو كان عظيماً؟ أعرف شيئاً مؤكداً هو أنّكِ حرّة، وأكره حرّيتك، حرّيتك التي تَسمع ولا ترى، التي لا ترحم، التي لم تستطع أن تحدّ من أنوثتك، والتي لم أجد بداً من الانحناء لها وإلاّ تحجّبتِ عليّ.
ليست العبوديّة استعباداً، بل هي عبادة. ليس أشدّ تكبيلاً من أصفاد العبادة ولا أكثر منها إسعاداً. العابد عبدٌ سكران بالضوء. أنا العابد السكران بالضوء وقطن الظلام وحيطان الحرمان وسماء حقول دموعي. دموع مهاجرة. دموعُ رجل لم يكن طفلاً ولا غادر طفولة لم يَعشْها. لم أعرف أني سأركع هذا الركوع، ولا قرأتُ عن مثيل له إلاّ تقززتْ نفسي. إلاّ قهقهتْ شماتتي. إلاّ أحسستُ أن في خزائن قلبي الخلفيّة عدوّاً سيذيقني العَلْقَم وعاصفة ستكسر ظهري بالعينين الصافيتين والفم الجائع. بالفم الصافي والعينين الجائعتين. بالهاوية والقمّة. برماد الكلمات المحروقة.
الفَرْق بين البراءَة فيكِ وبين المجون هو الفرق بين يديكِ. وهو أصغر من الفرق بين عينك وعينك. تدفعين عن نفسك تهمة البراءة كما يدفع العجوز عن نفسه تهمة العمر، وتصطنعين لفتنتكِ تواضعاً يُلْهبها لهَبَاً وحياء يزيدها جهنّميّة. لا حبّ ثمّة ولا بغضاء بل عبادة. لا شبَقَ ولا صوفيّة بل عبادة. عبادة تُذيب صخر الموت ولا تُحرّك رموش المعبود. عبادة توغل في السجود كلّما قوبلتْ بالبرود. عبادة تبعث على الضجر لأنّها مستحيلة التجنُّب. ولأن المعبود يريد هو أن يَعْبُد.
ارحمني كعظيم رحمتك. امحُ حواسي وذاكرتي. لا تَمحُ مآثمي بل أَنلني غايتي منها. ضَعْ أرضاً لا هذا الغيمَ تحت ركبتيّ. دعني أصل وأتناثر من مجمرتي واقصف غصن تشبّثي الجبان. لا أعرف من أنتَ الذي أُخاطب ولكنّه وجهٌ على هيئة أمّي وأبي. على هيئة العصفور الذي يطير كلّ يوم من صدري ويعود في نهاية اليوم ضاحكاً منّي.
هل تضحكين أنتِ أيضاً؟ «لمَ هذا الحزن؟» تسألينني. لأنّني طمّاع لا لأنكِ لاهية.
لا تَرْحمني دعك من رحمتك. أحتاجُ إلى تمديدٍ لهذه العبادة، إلى إمعان في هذا الغَرَق علّني أبلغُ قاعاً ثابتاً، علّني أستميل جرعةً من هذا البحر.