نقولا ناصيف
فتح التلازم بين المطالبة بحكومة وحدة وطنية ورفض الثلث المعطّل سجالاً هو أقرب الى مواجهة سياسية على السلطة منه الى تفاهم على تبرير دستوري لمغزى هذه المطالبة. وليس هو السجال الأول.
مذ أطبقت سوريا على الوضع اللبناني عام 1990 واستأثرت بتفسير أحكام الدستور المنبثقة من اتفاق الطائف ووضع آليتها للإمساك بكل السلطات اللبنانية، كان تأليف الحكومات اللبنانية المتعاقبة مذذاك يستند الى هذا التفسير. وفي كل من الحكومات الخمس التي تعاقب على ترؤسها الرؤساء عمر كرامي ورشيد الصلح ورفيق الحريري (لكون أولى حكومات عهد الرئيس الياس الهراوي برئاسة الرئيس سليم الحص ما بين عامي 1989 و1990 سبقت إقرار الأحكام الدستورية تلك)، حصرت دمشق بها ثلثي المقاعد الوزارية، وعطّلت كل محاولة نادى بها المسيحيون لتمكينهم من الحصول على الثلث الثالث من مقاعد مجلس الوزراء. في كل الحكومات تلك كانت المعارضة المسيحية ــ وكانت وحدها المعارضة ــ خارج الحكم. أول من اصطدم بدمشق في هذا الأمر كان قائد القوات اللبنانية سمير جعجع الذي طالب، ورئيس حزب الكتائب جورج سعادة، بثلث المقاعد تطميناً للمسيحيين بأن يكون صوتهم في الحكومة مسموعاً بعد صدمة إطاحة العماد ميشال عون في 13 تشرين الأول 1990، وبغية الحؤول دون سيطرة سورية فاضحة على الحكومة اللبنانية، ومن أجل وضع تنفيذ اتفاق الطائف في أيدي اللبنانيين وحدهم.
حينذاك أمل الرجلان أن يُكافآ على دعمهما اتفاق الطائف وتسويقه في الشارع المسيحي، ووثقا خصوصاً بأن السلطة الجديدة المنبثقة من الاتفاق ستأخذ في الاعتبار توازناً سياسياً لا يُشعِر المسيحيين بخسارتهم الحرب.
رفضت دمشق ما طالب به جعجع كي تبقي قرار السلطة التنفيذية في يدها وحدها، وكانت قد أحكمت سيطرتها على رئاسة الجمهورية عبر الهراوي، وعلى قيادة الجيش على أثر دخول جيشها النظامي اليرزة. استقال جعجع من حكومة كرامي عام 1990 التي سُمّيت «حكومة مصالحة وطنية» بتفاهم غامض قضى بإحلال روجيه ديب وزيراً محله لأشهر. ثم استقال مجدّداً من الحكومة التالية، حكومة الانتخابات النيابية، عام 1992 برئاسة الصلح. فكان الشرخ بينه ودمشق التي عمدت الى تقييد حصته السياسية في الحكم من خلال تلك الانتخابات ــ خلافاً لحلفائها الآخرين، شريكيه في الحرب، وليد جنبلاط ونبيه بري ــ بمقاعد قليلة في برلمان 1992. لم تكن سوريا تريده في الحكم ولا حليفاً لها، ولذا اختارت مسيحيين آخرين حلفاء كسليمان فرنجية والياس حبيقة وميشال المر وأسعد حردان.
في ذلك الحين وُلد مفهوم الثلث المعطّل الذي لم يقل به اتفاق الطائف، ولا نصّت عليه التعديلات التي أُدخلت على الدستور اللبناني. كان مبرر دعاته ضمانات بعدم تجاهل موقعهم في السلطة.
ليس ثمة ثلث معطّل لمجلس الوزراء، ولا هو يكفي للتعطيل، لئلا يُقال إن هذا التعطيل يحتاج واقعياً الى أكثر من الثلث، على غرار ما تقول به المادة 69 من الدستور من أجل اعتبار الحكومة مستقيلة، وهو فقدانها «أكثر» من ثلث عدد أعضائها. بل الأصح أن كلاً من المطالبين بثلث معطّل وبثلثين مقرّرين يخرج على ما نصّ عليه اتفاق الطائف والتعديلات الدستورية المنبثقة منه. ذلك ما فعلته سوريا لأكثر من عقد ونصف عقد، وذلك ما تقول به الآن الغالبية الحاكمة ومعارضوها. وبمقدار تشبّث الغالبية بالثلثين المقرّرين بحجة انبثاق شرعيتها التمثيلية من انتخابات 2005، تتسلّح المعارضة بحجة مقابلة هي أن الثلث المعطّل المطلوب هو للحؤول دون استئثار الفريق الآخر بالحكم لكون النظام اللبناني توافقياً.
والواضح أن كلاً من الطرفين يفسّر اتفاق الطائف على طريقته استناداً الى توازن القوى الذي تنشأ عنه أكثرية وأقلية. بعد عام 1990 فرضت سوريا تدريجاً بحكم انتشار جيشها النظامي واستخباراتها العسكرية أكثرية حاكمة في رئاسة الجمهورية والحكومات والمجالس النيابية المتعاقبة، واستطاعت من خلالها على مرّ السنوات التالية وضع اليد على المؤسسات الدستورية والسياسية والعسكرية والأمنية والقضائية والاقتصادية والنقابية، وأضحى أكثر من ثلاثة أرباع البلد حليفاً لدمشق ونابذاً للربع الباقي على هامش الحياة السياسية. ومرّرت من خلال هذه الغالبية كل ما عُرف بحقبة الوصاية السورية على لبنان. أما الغالبية الحاكمة المنبثقة من «انتفاضة الاستقلال» على أثر اغتيال الرئيس السابق للحكومة، ومن انتخابات 2005، فتسلك بدورها اللعبة نفسها وإن مقلوبة: تريد أن تحكم بالثلثين المقرّرين في مجلس الوزراء انطلاقاً من سيطرتها على الأكثرية المطلقة في مجلس النواب، وذلك في شتى مؤسسات السلطة، لإحكام السيطرة على كل مفاصل الحكم. على نحو مماثل لما فعله السوريون، أي أن تحكم وفق توازن قوى يرجّح كفتها حاضراً.
لم تعد المشكلة بين مَن يريد حكومة وحدة وطنية، ومَن يعتقد أن ثمة حكومة وحدة وطنية قائمة، بل بين مَن يتمسّك بثلثين مقرّرين يسيطر عليهما، ومَن يسعى الى انتزاعهما من الآخر كي يملك حق النقض داخل مجلس الوزراء تفادياً لتهميشه كالفريق الشيعي والرئيس ميشال عون.
والواقع أن اتفاق الطائف على طرف نقيض من هذا وذاك لأسباب أوردتها المادة 65 من الدستور، وهي:
1ــ أن السلطة الإجرائية تنبثق مؤسسات ثلاث هي رئيس الجمهورية (يحضر ساعة يشاء من غير أن يصوّت)، ومجلس الوزراء (يلتئم في مقر خاص به وقد أضحى مؤسسة دستورية مستقلة عن رئيس الجمهورية)، الحكومة (سلطة تنفيذ قرارات مجلس الوزراء ومسؤولة أمام مجلس النواب بعد أن تحوز ثقته). بذلك يمثّل الوزير في مجلس الوزراء طائفته مقدار تمثيله تياره السياسي والشعبي، وهو مغزى المشاركة.
2ــ وفّر اتفاق الطائف لمجلس الوزراء ضمانتين: عدم وجود أكثرية مقرّرة تفادياً للإخلال بمقدمة الدستور وفقرتها القائلة بأن لا شرعية لأي سلطة تناقض العيش المشترك، وعدم وجود أقلية معطّلة تفادياً لشلّ عجلة الحكم.
3ــ يهدف اشتراط ثلثي مجلس الوزراء نصاباً قانونياً لانعقاده الى ضمان عدم إقصاء طائفة، أو مذهب من ضمن طائفة، أو قوة سياسية ممثلة فيه من خلال تحديد نصاب موصوف، إلا أولئك الذين يريدون استثناء أنفسهم، وتالياً تفادي اتخاذ قرارات تصيب فريقاً ضد مصلحة آخر، وهو مبرر الشرط الآخر في المادة 65 تحقيقاً لمشاركة كاملة في الحكم، أي اتخاذ القرارات توافقياً بادئ الأمر، حتى إذا تعذّر ــ وثبت تعذّره خصوصاً ــ بعد بذل جهود أمكن الاحتكام الى التصويت. الحال نفسها بالنسبة الى شرطين موازيين بأهميتهما تأميناً للديموقراطية والمشاركة دونما انتهاك قاعدة التوافق: اتخاذ القرارات بأكثرية الحاضرين (بعد أن يكون الثلثان ضمنا التمثيل الكامل بمعزل عن الموقف)، وربط التصويت على المواضيع المصيرية بغالبية الثلثين.
وفي أي حال، لا يعدو رئيس مجلس الوزراء كونه وزيراً أول بين وزراء متساوين، ولا يتيح له موقعه ولا تمثيله طائفته امتيازاً خاصاً يُحرم منه شركاؤه في المجلس: صوته واحد كسائر الوزراء وغير مرجّح.