جان عزيز
لم ينته الجدل في بكركي بعد، حول بيان مجلس المطارنة الموارنة، الصادر يوم الأربعاء الفائت. «مستثمرو» البيان ساهموا أكثر من «معارضيه» في إبقاء السجال مفتوحاً. وبالتالي تركوا الباب مفتوحاً أكثر، لمحاججتهم والتفنيد.
أوساط الصرح المباشرة حاولت التوضيح تكراراً. وقيل إن صاحب الغبطة تحصّن من كل ما قيل، بنقطة واحدة تقلقه وتؤرقه: خطر الزعزعة الأمنية. على طريقة أن الرسالة الوحيدة التي قصد أصحاب السيادة توجيهها عبر بيانهم، هي التحذير من اهتراء في الأوضاع السياسية والعامة، يفتح الطريق لفلتان أمني يعيد تفجير البلاد، على طريقة 13 نيسان 75، أو على طريقة 6 شباط 84. والأوساط نفسها تشير الى أن ثمة من يضخ داخل الصرح «معلومات» و«مزاعم» و«مخاطر» و«نذائر»، تسعّر هذا الملف، كما أن التطورات الحاصلة على الأرض بين «حيّ التمليص» و«الرمل العالي»، جرّت المياه الى رحى هذا الخوف بالذات، لدى أهل الصرح.
غير أن جهات أخرى من زوار بكركي في الأيام الخمسة الماضية، تؤكد أن للمسألة بعداً آخر، غير الأمني. فهي في عمقها سياسية بامتياز. ولا تتردد هذه الأوساط في إعادة الربط بين عشاء سبعة من المطارنة الموارنة مع العماد ميشال عون، مساء الاثنين الذي سبق بيان الأربعاء، وبين البيان نفسه. وتختلف الجهات نفسها من زوار الصرح، حيال تشخيص العلاقة السببية بين العشاء والبيان. فبعضها يقول إن البيان ــ المصنّف في خانة المعارضة لمواقف عون، وخصوصاً في خانة الانتقاد لمطلبه تشكيل حكومة اتحاد وطني ــ إنما جاء انقلاباً بطريركياً على أجواء إيجابية قيل إنها تخللت عشاء الاثنين. ويؤكد أصحاب هذا التفسير أنهم صارحوا المعنيين به ونبّهوا الى سلبياته على أكثر من مستوى، علماً بأن هؤلاء أنفسهم وجهوا ملاحظات مماثلة على رد عون على بكركي بعد 72 ساعة من صدور البيان، في توقيت يعيد فتح السجال، في سياق مغاير لاتجاه تراجعي انكفائي و«توضيحي»، كانت قد سلكته لغة أوساط الصرح.
إلاّ أن تفسيراً آخر مناقضاً، ظهر لدى قسم ثانٍ من الزوار أنفسهم، ويشير الى أن البيان الشهري جاء ترجمة دقيقة لأجواء عشاء الاثنين. ويذكر هؤلاء أن عشاء الأساقفة وعون، المقرر بعلم البطريرك ورعايته وتشجيعه، كان يرمي على ما يبدو إلى البحث عن جواب عوني عن سؤال بطريركي واحد: ما هو التصوّر العملي والواضح لإنهاء سلاح «حزب الله»؟ ويتابع أصحاب هذا التفسير، نقلاً عن الأوساط نفسها، أن العشاء المذكور لم يحقق كما يبدو هذه «المهمة»، ولم يحمل الى الصرح الإجابة الشافية أو المطلوبة، مما مهّد الطريق أمام بيان الأربعاء.
ولا يستبعد المطلعون أن تكون اللغة البطريركية المذكورة نتيجة تراكمية للعاملين معاً: الذعر من الهاجس الأمني المهوّل به، وعدم الارتياح الى نتيجة عشاء الاثنين، في موضوع السلاح بالذات.
غير أن الزوار أنفسهم يعودون الى قراءة الصورة في شكلها الأشمل، والى الترداد، علناً، ما يؤكدون أنهم ناقشوه في بكركي صراحة ومكاشفة، منطلقين في برهان صوابية هذا النهج من السؤال: أي الأمرين أصحّ أخلاقياً وإنسانياً ووطنياً: مناقشة بكركي جهراً، توصلاً الى سبل الحقيقة والخير، بما يسمح بالتزام مواقف الصرح؟ أم اعتماد لغة مزدوجة، ظاهرها تأييد مواقف بكركي، وباطنها الانقلاب عليها ومناقضتها، كما اعتاد المزايدون اليوم، منذ أعوام طويلة وحتى قانون الانتخابات الأخير؟
وانطلاقاً من هذا المنطق، يعود هؤلاء الى مناقشة بيان الأربعاء، والى مناقشة «توضيحاته»، في نقاط ثلاث:
أولاً: من أقنع بكركي وكيف، بأن ثمة تطورات لبنانية داخلية أو إقليمية، قد تعرقل إنشاء المحكمة الدولية المزمع أن تنظر في جريمة 14 شباط 2005؟ وتسارع هذه الأوساط الى الجزم بأن هذه المقولة هي من باب التضليل الخالص. ذلك أن الحديث عن «التدويل» القائم للوضع اللبناني، في حال صحته، لا يتناول إلاّ موضوع المحكمة الدولية بالذات. فهذه المحكمة تقتضي لولادتها قراراً خاصاً صادراً عن مجلس الأمن، تحت أحكام الفصل السابع من شرعة الأمم المتحدة. وبالتالي أياً كانت المواقف اللبنانية من هذه الخطوة، فهي حاصلة حتماً. كل المتغيّر فيها، هو أن تكون محكمة دولية بالكامل، أو ذات طابع دولي. والفارق بين الاثنين هو إفادة بعض الموظفين اللبنانيين من الصيغة الثانية، في مقابل تكبيد المكلف اللبناني بضع مئات من ملايين الدولارات، وبالتالي فإن الربط بين التغيير الحكومي وعرقلة قيام المحكمة خطأ فاضح ومؤكد بالأدلة والقرائن.
ثانياً: من أقنع بكركي وكيف، بأن التغيير الحكومي المطلوب، في صيغه المعروفة حتى اللحظة، قد يكون لخدمة جهات وحسابات إقليمية؟ فعناصر التبديل الوحيدة المطروحة في هذا التغيير، تتناول التمثيل المسيحي. فهل ترى بكركي أن نسبة 3 وزراء «سياديين» من أصل 12 وزيراً مسيحياً، كافية للتوازن والمشاركة، أم ترى أن ميشال عون من أصحاب المصالح والحسابات الإقليمية المحذّر منها؟
ثالثاً: لقاء ماذا قدمت هذه «الخدمة» البطريركية للحريرية السياسية في هذا التوقيت بالذات؟ فماذا لو انتظر المعنيون حتى تعيّن «الحريرية» مديراً عاماً لوزارة التربية على الأقل، وُعد الصرح به منذ أشهر، كما عينت رئيس مجلس الإنمار والإعمار في خلال 24 ساعة من شغور الموقع الحيوي لمشاريعها؟ علماً بأن المسألة ليست إلاً مثلا لا غير.
زوار الصرح يؤكدون أن بعض المناقشات انتهت بأصوات أعلى من بداياتها. لكنه واجب مسيحي أكيد، على طريقة النعم نعم، أو لا فلا.