نقولا ناصيف
لكل من طرفي المواجهة، قوى 14 آذار ومعارضيها، وجهة نظر يتسلّح بها: الأولون يصرّون على احتفاظهم بالثلثين المقرّرين في مجلس الوزراء لئلا تمسك المعارضة بالثلث المعطّل وتجمّد آلة الحكم، والآخرون يريدون الثلث المعطّل لمنع الغالبية من الاستئثار بالسلطة منفردة وتجاهل شركائها.
الوجه الآخر الأكثر تعقيداً لهذا الاشتباك، أن فريق 14 آذار يدرك أنه ليس في وسعه وحده انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس إميل لحود. والمعارضة تدرك بدورها أنها غير قادرة وحدها على تأليف حكومة جديدة خلفاً لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وفي أضعف الإيمان تأمين أكثرية تسمّي رئيساً مكلفاً للحكومة، أياً تكن الأسباب التي تؤدي إلى استقالة الحكومة الحالية أو إسقاطها.
في حصيلة ذلك استنتاجان:
أولهما، وجود غالبية سياسية دستورية عاجزة عن التفرّد إلا بحدود دنيا من السلطة (كبعض التعيينات والتشكيلات، ولا يصحّ ذلك على الأجهزة الأمنية)، قبالة أقلية قادرة على المبادرة والإزعاج والإقلاق داخل السلطة التنفيذية وخارجها.
وثانيهما، وجود مأزق خطير يواجه طرفي النزاع جراء عجز كل منهما عن فرض إرادته على الآخر.
وقد يكمن في تبرير هذا العجز مغزى ما كان أعلنه الرئيس نبيه بري قبل سفره إلى السعودية الأحد الفائت (8 تشرين الأول)، عندما أحرز تقدّماً لافتاً في موقفه من حكومة السنيورة ــ وهو لا يتردّد في تأكيد دعمه لها حتى إشعار آخر ــ بقوله إنه منفتح على المطالبة بحكومة وحدة وطنية (تبعاً لمطلبي الرئيس ميشال عون و«حزب الله»)، على أنه يرى الأمر منوطاً باتفاق مسبق على تأليف الحكومة الجديدة قبل استقالة الحكومة الحالية تفادياً لفراغ دستوري محتمل. والدلالة التي ينطوي عليها موقف رئيس المجلس أنه يؤسس لقياس آخر يتعلق بالاستحقاق الرئاسي، وهو الاتفاق على رئيس الجمهورية الخلف قبل تنحي الرئيس الحالي. أو في أبسط الأحوال التوصّل إلى تسوية سياسية مكشوفة ومتوازنة بين طرفي الصراع إبّان المهلة الدستورية لانتخاب الرئيس الجديد بين 24 أيلول 2007 و24 تشرين الثاني. وكان بري قاطعاً، كرئيس للمجلس صاحب الصلاحية الدستورية الحصرية في دعوة مجلس النواب إلى جلسة الانتخاب كما بصفته طرفاً شريكاً في الفريق الشيعي، عندما وضع سقفاً للمناورات المبكرة في الاستحقاق الرئاسي، وهو أنه لا يفتتح جلسة الانتخاب قبل أن يحصي في قاعة البرلمان 86 نائباً إلى مقاعدهم. الأمر الذي يقتضي سلفاً تفاهماً بين الموالاة والمعارضة على اسم الرئيس يقود النواب الـ86 الى الاقتراع له. وعلى جاري العادة في معظم استحقاقات الرئاسة اللبنانية، يُنتخَب الرئيس الجديد من الدورة الأولى، مظللاً بإجماع الثلثين.
في حمأة المناورات المبكرة هذه، وإلى أن يحين أوان الاستحقاق الرئاسي، فإن الجانب الآخر من المأزق الداخلي يكمن في مصير حكومة السنيورة. مأزق كهذا لا يقل أهمية وغموضاً والتباساً عند طرفي النزاع كليهما، نظراً إلى عجزهما، ربما، عن حماية المناورة المتبادلة التي يخوضانها.
وكما أن الإمكانات المتوافرة لدى المعارضة، وأخصّها استخدام الشارع واللجوء إلى الاعتصامات، لا تقود حكماً إلى إسقاط حكومة الغالبية الحاكمة، وإن قادت البلاد إلى بدايات فوضى أمنية وسياسية، ولن يُقدم السنيورة على الاقتداء بتجربة سلفه الرئيس عمر كرامي الذي فاجأ مجلس النواب باستقالة حكومته تحت وطأة الشارع في 28 شباط 2005، فإن من غير المؤكد أيضاً أن يكون في وسع الحكومة، ومن ورائها الغالبية الحاكمة، أن تنأى بنفسها عن مواجهات خطيرة قد ترغمها على التنازل والاستقالة أو القبول بتعديل حكومي. وقد يكون مبعث هذا التجاذب ــ المتكافئ وغير النهائي بالنسبة إلى الطرفين معاً ــ أنهما انخرطا في معركة استحقاق حكومي وكل منهما يتطلّع إلى هدف آخر:
ــ تريد الغالبية من الاحتفاظ بالثلثين المقرّرين في مقاعد مجلس الوزراء تأمين الكفّة المرجّحة لإقرار مشروع المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإن اقتضى الأمر تكرار تجربة 12 كانون الأول 2005 عندما أصرت، بعد ساعات من استشهاد النائب جبران تويني، على التصويت على إقرار طلب الحكومة اللبنانية من مجلس الأمن تأليف محكمة دولية، فكان أن قاطع الوزراء الشيعة الخمسة.
ــ في المقابل فإن تمسّك «حزب الله» من داخل الحكومة، وعون من خارجها، بالثلث المعطّل في حكومة وحدة وطنية، لا يعدو كونه شرطاً ظاهرياً يتوخى هدفاً آخر أكثر أهمية بالنسبة إليهما، هو الحؤول دون وصول حكومة السنيورة إلى انتخابات رئاسة الجمهورية، ومن ثم تحميل المعارضة مسؤولية فراغ دستوري في حال تعذّر الاتفاق على مرشح قوى 14 آذار للرئاسة الأولى. الأمر الذي يؤول إلى تسلّم حكومة السنيورة، في ظلّ هذا الفراغ، مجتمعة صلاحيات رئيس الجمهورية بالوكالة.
بذلك يبدو التلازم ظاهرياً وقليل الفاعلية، إذ يربط تأليف حكومة وحدة وطنية بتعطيل المحكمة الدولية.
ويعني ذلك أيضاً أن أحدهما لا يُثقِل على الآخر ولا يتهدّده بالضرورة، لسببين على الأقل:
1 ــ أن تأليف حكومة وحدة وطنية يشارك فيها عون يعزّز حظوظه وحلفاءه («حزب الله» وحركة «أمل») في خوض معركة متكافئة في انتخابات رئاسة الجمهورية، وخصوصاً أن الاستحقاق الرئاسي يوجب وجود 86 نائباً عند افتتاح جلسة الانتخاب.
2 ــ أن الحذر من حكومة وحدة وطنية تعطّل تأليف المحكمة الدولية ينطوي على رغبة صريحة في إبقاء «التيار الوطني الحر» خارج الحكم من جهة، وتمكين الغالبية من الاحتفاظ بالثلثين المعطّلين من جهة أخرى. وهما أمران لا شأن لهما بالمحكمة الدولية التي أصبحت في عهدة مجلس الأمن ويرعاها القرار 1644.
وخلافاً للاعتقاد السائد، فإن قراراً مفتعلاً بتعطيل تأليف المحكمة الدولية من شأنه أن يصحّ على الحكومة الحالية (تكراراً لاختبار 12 كانون الأول 2005)، كما على حكومة وحدة وطنية إذا عزم الفريق الشيعي بمرجعيتيه على رفض بعض ما قد يتضمّنه مشروع تأليف المحكمة الدولية، أو رأى فيه استهدافاً سياسياً له. عندئذ تمسي المشكلة أكثر تعقيداً، أمام المجتمع الدولي على الأقل، في حال إقرار الحكومة اللبنانية مشروعاً لا يحظى بإجماع أعضائها، بل ترفضه طائفة كبرى رئيسية ومؤثرة.
متى يقف الفريق الشيعي، و«حزب الله» تحديداً، في مواجهة مشروع كهذا؟
في حال أو أكثر. لكن أكبر الحالات وطأة هي أن يلمس تهديداً مباشراً للإيقاع به في جريمة الاغتيال بعض «أرباحه» السياسية تعويض نتائج حرب 12 تموز. أو أن ينطوي مشروع المحكمة الدولية الذي أعدته الدائرة القانونية في الأمانة العامة للأمم المتحدة على آلية يستشم الحزب منها ضمناً إمكان طلب دعوة أمينه العام السيد حسن نصرالله إلى الإدلاء بإفادته.