كامل جابر ــ خالد الغربي
كثيراً ما يتردّد اسم منطقة «التعمير»، لكنّه يرتبط دائماً بإشكالات أمنيّة، كأنّ القاطنين هناك لا يشغلهم إلا افتعال المشاكل التي غالباً ما تبقى مجهولة السبب والغاية. هنا محاولة للإضاءة على هذه المنطقة التي بدأ تهميشها يهدّد مدينة صيدا ومخيّم عين الحلوة على حدّ سواء

ليس الفقر المدقع وحده ما ينغّص حياة أبناء محلة التعمير في صيدا، الملاصقة لعاصمة الشتات الفلسطيني في لبنان، مخيم عين الحلوة؛ فالأهالي الذين تضيق بتعدادهم الضخم، بيوتهم المتواضعة، كيّفوا أحوالهم مع شظف العيش والواقع المعيشي والحياتي «المأسوي»، في هذه البقعة المنكوبة اجتماعياً وإنسانياً، والتي يرزح قاطنوها تحت خط الفقر والعوز والإهمال. بل إن ما يقلق هؤلاء، هو توتر الوضع الأمني فيه باستمرار، وتجلّيه أخيراً بسلسلة حوادث، آخر ضحاياها مسحّراتيّ وطفل دون العاشرة. وتفاقم المشاكل «المفتعلة» والاستنفارات المسلحة خلال الليل، وحتى في النهار، لقاء أي «نسمة» تهب من داخله أو خارجه، وخصوصاً مع انتفاء المعالجات الحقيقية التي تطمئن الناس. فالمنطقة باقية كبؤرة فراغ أمني، وملاذ الخارجين على القانون، خارج إطار انتشار السلطة الأمنية اللبنانية وشرعيتها. وكانت السلطة الأمنيّة قد آثرت التوقف، على مشارف هذه المنطقة اللبنانية، بامتياز، عندما انتشرت القوى الأمنية في منطقة صيدا، صيف عام 1991. وفي حال استمراره، يهدّد هذا الوضع المنطقة بانفجار، ربّما يتخطّى حدود «التعمير» في لحظة ما.
لا تنفي مختلف القوى السياسية الصيداوية والفلسطينية التي هي على تماس مباشر مع الحي ومشاكله، صيغة «افتعال» المشاكل في التعمير. ذلك أنّ أي توتر أمني في التعمير ينعكس مباشرة على مخيم عين الحلوة، وقبله على مدينة صيدا. ويستدعي هذا الأمر تدخّل المرجعيات الفلسطينية المختلفة تحت شعار «المونة» لفض الخلافات والحد من تفاقمها واتساع دائرتها.
وتتولّى الجهتان المختصمتان سياسياً في مدينة صيدا، «التنظيم الشعبي الناصري» و«تيار المستقبل» الاتهامات المتبادلة في أي توتر يصيب الحي. واللافت أنّ أسماء المختصمين ومفتعلي المشاكل، بين فعل ورد فعل، تدلّ على انتماءاتهم السياسية. فهم ينتمون إمّا لـ«التنظيم» أو لجماعة «جند الشام» الأصولية السنّية، المدعومة من تيار المستقبل ـ بحسب تأكيد العديد من المرجعيات اللبنانية والفلسطينية. ولا يستبعد رئيس التنظيم الشعبي الناصري النائب الدكتور أسامة سعد تورّط بعض المرجعيات الفلسطينية في أحداث التعمير وفي تسليح بعض الجهات الأصولية.
ويلفت النائب سعد إلى أن «المشكلة أن هناك عصابة معروفة تتعاطى المحذورات. هناك مجموعة من الساقطين اجتماعياً، ومن المجرمين، تتستّر تحت عباءة الاسلام، وتقف وراء ما يجري في التعمير. ما يعنيني أن هناك حياً سكنياً مدنياً لبنانياً، يتعرض لمختلف أنواع التعديات والتوترات الأمنية. نحن مطالبون بطريقة ما لمعالجة الوضع؛ معلوماتنا، بصرف النظر حول مسؤولية تيار المستقبل أو عدمها، أن التسليح والإمكانات التي تأتي الى الأفراد، مفتعلي المشاكل، هي من مخيم عين الحلوة. هذا يعني أنّ مسؤولية الفاعليات الفلسطينية ومنظمة التحرير الفسطينية أن تساهم في معالجة هذا الأمر في هذا الحي الشعبي الفقير؛ هذا الحي انتماؤه وطني وليس معادياً للقضايا الوطنية ومقاومة الاحتلال ومواجهته. هناك مسؤوليّة علينا وعلى المخيم. ويجب ألّا تستسهل المرجعيات الفلسطينية الأمر، عندما تقول بمسؤولية تيار المستقبل. إنها بذلك تهرب من مسؤوليتها عن هذا الأمر، حتى لا نضيع القصة وحقيقة ما يجري وخطورته على الحي وعلى مدينة صيدا وعلى مخيم عين الحلوة».
أمّا النائب بهية الحريري فدعت أمس الى رفع الغطاء عن كل مخل بالأمن وكل محاولات المس به في منطقة التعمير في صيدا، ومواجهة أي نوع من إلصاق التهم يمينا ويسارا، ورأت في ما يخص موضوع دخول الجيش اللبناني الى التعمير أمراً مبرراً، غير أنّه يحتاج لآليات عمل. وسيتم الطلب من مجلس الأمن الفرعي وضع النقاط الرئيسية بالنسبة لهذا الموضوع من الجانب اللوجستي والأمني، معتبرة أن العوائق أمام دخول الجيش الى التعمير لوجستية وليست سياسية. وجاء كلام الحريري بعد اجتماع ترأسته في دارتها في مجدليون للّقاء التشاوري لفعاليات مدينة صيدا، غاب عنه أي ممثّل عن حزب الله، ولم توجه الدعوة لحضوره الى النائب أسامة سعد ورئيس البلدية عبد الرحمن البزري.
قائد ميليشيا حركة فتح في لبنان وقائد الجيش الشعبي ـ قوات العودة ـ العقيد منير المقدح، يعزو ما يجري في «التعمير» إلى «الأمن بالتراضي الذي لا ينفع عندنا ولا عند غيرنا؛ فضلاً عن التدخلات من خارج المنطقة، من بعض القوى والأحزاب والأجهزة الأمنية، ما يتسبب بالتراكم والانفجار؛ والمستهدف برأيي هو التنظيم الشعبي الناصري؛ وبرغم كل الظروف التي يمر بها شعبنا الفلسطيني، هناك قضايا مطلوب من الحكومة اللبنانية التعاطي معها، فهناك ما لا يقل عن خمسة آلاف مطلوب بقضايا سياسية، منهم ألفان في مخيم عين الحلوة، ما يشكل ضغطاً كبيراً على المخيم وعلى التعمير. وللأسف، الحكومة اللبنانية منذ أن فتحت الملف الفلسطيني لم نسمع منها إلا الوعود، ولم تقدم أي شيء».
ويشير المقدح إلى أن «التعمير» يقع «خارج نطاق المخيم وخارج نطاق الدولة اللبنانية، ومعالجة المشاكل فيه تتم بالتراضي. نتدخل في أحيان كثيرة من خلال لجنة المتابعة في المخيم التي تشارك فيها مختلف الأطراف، وكذلك من خلال اللجنة الشعبية، فيما لا توجد مرجعية واضحة في التعمير. وينبغي ألا ننسى موازين القوى في صيدا والتي لها علاقة بالتحريض. فالأطراف عندنا فيها من يؤيد التنظيم الناصري، وأيضاً من يؤيد تيار المستقبل. ولا بد من لقاء صيداوي موسع مدعوم من الدولة اللبنانية، وبحضور قوى عين الحلوة، لمعالجة وضع التعمير. كما يجب أن ترفع بعض الأجهزة التي تلعب بالدم يدها عن التعمير».
وإذ تتمنّع مرجعيات «جند الشام» عن أي لقاء كلامي أو إعلامي، يمكن أن «يمون» رئيس الحركة الإسلامية وإمام مسجد النور في عين الحلوة الشيخ جمال خطاب، على بعض مرجعيات جند الشام. يؤكد الشيخ خطاب «أن ما يجري في التعمير يدخل في إطار الصراع اللبناني ـ اللبناني، وهذه المنطقة متنازع عليها بين أكثر من طرف لبناني. ويمكن لأي كان من هذا الفريق أو ذاك، أن يستغلّ بعض الاخوان المحسوبين على التيار الإسلامي. وبنتيجة الصراع المحلي، يصبح طرفاً في المشكلة، في حين أنّ لا مشكلة ما بين المخيم والتعمير، أو بين التعمير والحالة الاسلامية».
ويشير الشيخ خطاب إلى أن غياب «العامل العشائري للعائلات في التعمير، الموجود والمؤثّر في مخيم عين الحلوة، يزيد في تفاقم المشاكل. فلا مرجعية عشائرية هناك، ولا مرجعية أمنية أو سياسية أو اجتماعية، المرجعيات صيداوية ويجب أن تلتقي لتتعالى على خلافات ليست جوهرية».
تشكو فاطمة السيد من انفلات الوضع و«كأنه لا يكفينا المعاناة المعيشية، ونحنا عايشين من قلة الموت». وتشبّه فاطمة التي اقتطعت جزءاً من غرفتها للعمل في الخياطة وحياكة الفساتين، الوضع القائم حالياً «بما كان عليه قبل 15 سنة، حيث كان يشتبك عدد من أبناء المنطقة مع مسلحين فلسطينيين، مع فارق، أننا كنا نذهب لعند «الله يرحمه» (تقصد النائب الراحل مصطفى سعد) ويتدخل، وتنتهي المشاكل. أما الآن فلا نعرف الى من تنتمي هذه العصابات المسلحة». وتتساءل فاطمة عن عدم انتشار الجيش اللبناني، حتى الآن، في هذه المنطقة اللبنانية، مئة في المئة.
من المسؤول عما وصلت اليه الأمور في منطقة التعمير؟ سؤال ينقسم المواطنون في الإجابة عنه، ويعكس الانتماءات السياسية لهؤلاء. ويرى البعض أنّ ما يحصل متصل بالصراع المحلي الدائر في صيدا، والاختلاف في مقاربة الملفات، ولا سيما السلاح الفلسطيني، ومعالجة ملف المخيمات. ويقول علي عفارة: «صحيح أن جغرافية منطقتنا (التعمير) لا تتعدى ستمئة متر مربع، لكنها بالسياسة أبعد بكثير، وهي تتصل بأحداث المنطقة وتمر في عواصم القرار، وبلعبة الكبار، وندفع نحن ثمن هذه اللعبة». ويخالفه حسن حجازي الرأي فيقول: «ان وصف الأمر بهذه الصورة مضخّم جداً، نعم هناك مشاكل وأحداث، ولكن علينا عدم إعطاء الأمور أكثر من حجمها».
وسط هذه المخاوف التي يعيشها الأهالي، يبدو أي انتشار لقوى الشرعية اللبنانية لسدّ الفراغ الأمني في هذه المنطقة، غير متوقع في المدى القريب. فالقرار السياسي غير متوافر حتى الآن، فيما تجعل جغرافية المنطقة وتشابكها من انتشار الجيش أمراً صعباً. فهو في حال انتشاره سيكون وجهاً لوجه مع عناصر عصبة الأنصار الاسلامية التي يتزعمها «المتهم الفار أحمد عبد الكريم السعدي المعروف بـأبي محجن» من جهة، وعناصر جند الشام، من جهة ثانية. وبالتالي، ستكون مواقع الجيش مكشوفة وطرق الإمداد متعثرة، لذلك فإن الأمر قد يكون متروكاً، الى حين معالجة قضية المخيمات بشكل تام ونهائي.