جوزف سماحة
الزيارة التي قام بها الرئيس نبيه بري إلى السعودية تكتسب أهمية مضاعفة من أنها جاءت بعد الزيارة التي سبقته إليها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس.
نحن في حضرة معادلة بسيطة (قد تداعب نرجسية بري): إذا كانت زيارة رايس ناجحة فستفشل زيارة بري، وإذا نجح بري فذلك يعني أن رايس فشلت. كيف؟ ولماذا؟
حملت الوزيرة الأميركية معها في جولتها الشرق أوسطية الأخيرة ملامح خطة متكاملة أعلنت عنها قبل قدومها. تقوم هذه الخطة على المحاور التالية:
1 ــ إن المثير للقلق في «حرب الصيف» اللبنانية ليس العدوان الإسرائيلي وإنما فشله. المشكلة هي، إذاً، في صمود المقاومة واللبنانيين.
2 ــ لقد أدى هذا الصمود إلى تنبيه أنظمة عربية وإخافتها. اندفعت إلى إدانة «مغامرة» حزب الله. ولكن لما سقطت نظرية «المغامرة» بفعل التصدي برز الخوف من قوة الصمود وآثاره الإقليمية. ولذلك كان في تقدير رايس أن ذلك سيدفع هذه الأنظمة نحو مغادرة «المراوحة» والانخراط الفعال في جبهة تواجه «التطرف».
3 ــ لقد نشأت ظروف سياسية مؤاتية، في رأي واشنطن، لإنشاء «حلف المعتدلين» الذي ترعاه واشنطن وتشارك فيه ويضم دولاً عربية وأوروبية فضلاً عن إسرائيل. والحلف المذكور هو مرتكز إقليمي لـ«الحرب الكونية على الإرهاب»، وهو موجّه ضد أعداء محدّدين هم، بالاسم، إيران وسوريا و«حزب الله» و«حماس».
4 ــ إن لبنان ساحة من ساحات الحرب الكونية المشار إليها. والترجمة اللبنانية لسياسة الحلف الجديد هي دعم الحكومة الحالية (بمضمون وحيد تقريباً هو دعمها ضد المقاومة)، رعاية الجيش، تحوير عمل القوات الدولية في البر والبحر، تعميق القطيعة اللبنانية ــ السورية، إغداق المساعدات على أنواعها لتغليب الأكثرية على خصومها كلهم وتشجيعها على المواجهة معهم.
5 ــ ينقص قيام الحلف توافر شرط حيوي هو النجاح في تحريك الملف الفلسطيني ــ الإسرائيلي أو، على الأقل، التظاهر بالاهتمام الجدي بذلك. إن هذا ما يسلّح المعتدلين بورقة ثمينة من أجل الاهتمام بالخطر الفعلي الذي يتهدد المنطقة والمتمثل بالمحور الذي تشكل إيران عموده الفقري.
لم يخترع أحد معالم هذه الخطة ولم يتوصل إليها بالتحليل والاستنتاج. إنها الحصيلة التي يخرج بها كل من يتابع تصريحات رايس وموظفيها في الصحف ووسائل الإعلام. إلا أن ما يلاحظه هذا المتابع، أيضاً، هو أن الضجة السابقة للجولة تراجعت كثيراً بعد اختتامها... ثم سرقت كوريا الشمالية الأضواء.
لا نعرف بدقة ما عادت به رايس إلى واشنطن من اجتماعاتها في المنطقة. لكننا نعرف، بالتأكيد، أن ثمة مقدمات في سياسات بعض الدول العربية المعتدلة أصلاً كانت تسمح للوزيرة الأميركية بالرهان على إنجاز فعلي: دفع الاعتدال العربي إلى حدوده القصوى... المتطرفة.
لقد تعاطى الإعلام الأميركي مع جولة رايس بما يوحي أنها تقع في منطقة ما بين الفشل وعدم تحقيق الطموحات المعقودة عليها. وإذا كان هذا التقدير صحيحاً فإن السبب هو أن الوزيرة لم تكن «وسيطاً نزيهاً» ينجح في انتزاع أي شيء جدي من الحكومة الإسرائيلية. كل ما فعلته هو الحصول على وعود مبهمة بلقاء محتمل بين إيهود أولمرت ومحمود عباس، وبترجيح فتح معبر أو طريق. ربما كانت النتيجة الملموسة لجولتها هي توفير دعم معنوي لأبو مازن لا مؤدّى له سوى تغليبه على «حماس» أي... مفاقمة الأزمة الفلسطينية.
ويمكن القول، ولو ببعض التفاؤل، إن تصريحات الرئيس حسني مبارك عن سوريا ومصير زيارة الرئيس بشار الأسد إلى مصر هي من المؤشرات إلى أن «المعتدلين العرب» المعنيين يوحون بأن لديهم ما يضيفونه إلى البرنامج المقترح عليهم من واشنطن.
تقع زيارة بري إلى السعودية في هذا السياق. لقد توجّه إلى المملكة مطالباً إياها بالتدخل لتهدئة الوضع اللبناني بما يصون المقاومة (معاكساً المطلب الأميركي بالمحاصرة والاستئصال)، وبالمساعدة على تطبيع العلاقات اللبنانية ــ السورية (خلافاً للدعوة إلى تأزيمها).
إن أي تجاوب سعودي مع بري يعني، من جانب الرياض، أنها لم تنخرط حتى النهاية في الخطة المقترحة على «المعتدلين العرب»، وأنها تحتفظ بنظرتها الخاصة إلى «الوسطية» و«الاعتدال» وبالتالي بهامش استقلال عن السياسة الأميركية الإجمالية في المنطقة.
إذا كان ذلك صحيحاً يفترض بنا أن نتوقع تدخلاً سعودياً لدى القوى «الصديقة» لها في لبنان (ملاحظة: ينحسر النفوذ السعودي في لبنان بقدر ما تبدو المملكة طرفاً في بلد شديد الاستقطاب). وغاية التدخل تشجيع هذه القوى لا على الدفاع عن الستاتوكيو بل على الانفتاح على تسويات داخلية، وعلى تطبيع مع سوريا في انتظار المحكمة الدولية وحكمها.
إن لم نلحظ هذا التحوّل فذلك يعني أن المملكة إما لا «تمون» على أصدقائها وإما أنها أسمعت بري كلاماً طيباً رداً على كلام طيب أسمعها إياه. علينا أن ننتظر لنرى. ولكن علينا أن نفعل ذلك مدركين أننا، في لبنان، نملك مقياساً يمكنه أن يفيدنا في تقدير سياسات دولية وإقليمية شديدة الأهمية. والمقياس المشار إليه هو أن بلدنا يمثّل حالياً واحداً من مجالات الاختبار الحيوية لتوجهات تطاله وتتجاوزه. سنعرف، من بيروت، طبيعة الاصطفافات في المنطقة، وحقيقة التوجهات المتصارعة، والمواقف الدقيقة للدول الإقليمية والأجنبية الفاعلة.
تبقى نقطة خاصة لا بد من الإشارة إليها لأنها ذات صلة بزيارة بري إلى السعودية.
نعرف جداً حساسية العلاقات المذهبية حالياً، ونقدّر المخاوف من فتنة سنّية ــ شيعية، ونسلّم بأولوية هذا الملف. إلا أن ما يجب قوله هو أن لبنان ليس، بهذا المعنى، شبيهاً بالبحرين مثلاً. الوضع اللبناني أكثر تعقيداً لأنه يغري بأن تحجب توترات مذهبية عمق الأزمة الوطنية التي نعيش والتي لا تكتمل صورتها من دون الإطلالة على «البعد المسيحي» فيها.
لا يبدو أن هذا البعد كان حاضراً على جدول أعمال الاجتماعات في السعودية. هذا نقص له، بالضرورة، انعكاسات سلبية على المعالجات اللبنانية. وللبحث صلة.