نقولا ناصيف
أين يقع الرئيس أمين الجميل في تحالف قوى 14 آذار؟
تطرح هذا التساؤل بضع ملاحظات تتصل بموقعه في هذا التحالف، وبواقع قدرته على التحرّك في الشارع المسيحي الذي يقاسمه النفوذ عليه الرئيس ميشال عون ورئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع. تجمعه بالأول علاقة باردة ونادراً ما يلتقيان، ويصف الثاني بأنه حليفه في قوى 14 آذار منذ انتخابات 2005.
أما الملاحظات المتصلة بموقع الجميل في تحالف 14 آذار، فتكمن في الآتي:
1ـــ الدور البارز الذي يضطلع به جعجع في «سيبة» مثلثة في هذا التحالف هي التي تجمعه برئيس الغالبية النيابية سعد الحريري ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط مذ شبك الثلاثة ــ ولم يكن الجميل رابعهم ــ أيديهم عالياً في 14 شباط 2006 في ساحة الشهداء. مذذاك، على هامش قوى 14 آذار، بدا أن ثمة ثنائية متشددة من الرمزين اللذين تقاتلا بضراوة وجهاً لوجه قبل 23 عاماً هي واجهة الرد على «حزب الله»، محاولة بناء توازن سياسي معه. وأكثر من أي وقت مضى، فإن هذين الزعيمين اللذين تفرّق بينهما جغرافيا المسقط، فلم يتشابها في العداء ولا في التحالف على غرار ما كانت العلاقة، مثلاً، بين الشوفيين الرئيس كميل شمعون وكمال جنبلاط، يعكسان صورة مشروع سياسي مناوئ بتصلّب لسوريا ومنفتح بحرارة على الغرب. وعلى نحو الحروب القديمة التي خاضها كل منهما عند جبهته، أو أحدهما في مواجهة الآخر، يسلّمان بأن منطق الوصول الكامل الى الحكم يقتضي في لعبة النزاع أن يكون على قاعدة رابح وخاسر. وتبعاً لتحالفهما هذا كان الردّ المنسّق والمدروس ربما بين جنبلاط والحريري وجعجع على خطاب الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في 22 أيلول، خير دليل على رغبة هذه «السيبة» في إحداث التوازن في ردّ الفعل. وكان المقصود بذلك ظهور جعجع بمظهر زعيم المسيحيين في قوى 14 آذار رغم وجود أفرقاء مسيحيين آخرين فاعلين في هذا التحالف كالجميل والنائب بطرس حرب والنائب السابق نسيب لحود. وهو لا يكتفي بخيارات مناوئة للحزب، بل أيضاً يشكّل رأس حربة المواجهة من داخل الطائفة ضدّ عون، وضد استمرار الرئيس إميل لحود في الحكم.
2 ــــــ على أثر القداس الذي دعت إليه القوات اللبنانية إحياءً لذكرى شهدائها في حريصا يوم 24 أيلول، اجتمع جعجع بأركان حزبه وأجرى وإياهم تقويماً للنتائج السياسية للقداس، ولاحظ أن قسماً رئيسياً من الجمهور المسيحي الذي شارك في التجمّع هو من كتائبيي البلدات والقرى المسيحية: إما عائلات شهداء سقطوا في سني الحرب، وإما مقاتلون كتائبيون منضوون في القوات اللبنانية، أو كتائبيون لا يزالون متمسكين بالخطاب السياسي المتصلّب. في حصيلة هذا التقويم طلب جعجع إجراء جردة على هذه البلدات واستمالة مفاتيحها الكتائبية الرئيسية المؤثرة الى القوات اللبنانية نظراً الى قدرتها على تحريك الشارع.
3 ــــــ مع أن الجميل الأب يوجّه انتقادات قاسية الى عون، وكذلك يفعل نجله الوزير بيار الجميل، فالواضح أن المواجهة المسيحية الفعلية والتسابق على الزعامة هما بين عون وجعجع. كلاهما يقدّم للآخر، وللمعسكرين السنّي والشيعي، يوماً بعد يوم، عرض عضلات في الشارع المسيحي من خلال الاحتفالات. بعد قداس حريصا، يأمل المحيطون بالعماد حضور ما يقارب 200 ألف مشارك في إحياء ذكرى 13 تشرين الأول 1990. كذلك يوازي جعجع في تحالف 14 آذار موقع عون في تحالف وثيقة التفاهم مع «حزب الله». ولأن الرجلين عقدا بينهما أكثر من مرة تحالفاً هزيلاً غير موثوق به على امتداد عام 1988، تارة في وجه محاولة دمشق فرض رئيس جديد للجمهورية، وطوراً في وجه الجميل إذ اعتبرا آنذاك أنه كرئيس للجمهورية يريد أن يضع واحدهما في وجه الآخر، فإن الامتحان الفعلي لعلاقتهما الملتبسة والغامضة والمحاطة بالشكوك وعدم الثقة لم يتأخر حتى انفجر دموياً في 14 شباط 1989 ثم في 31 كانون الثاني 1990. وكان أن ذهبت حربهما بأحدهما الى المنفى وبالآخر الى السجن. وفي واقع المواجهة السياسية بينهما الآن، من دون إغفال مفاعيلها «النائمة» الى حدّ في الجامعات والمدارس، أن كلاً منهما يدافع عن خيارات أضحت نقيض خيارات الآخر، بحيث إن تسابقهما على الشارع المسيحي نجح في تجاهل حزبي الوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية، ووضع حزب الكتائب على هامش الزعامة المسيحية. لم يعد موقع جعجع في «السيبة» المثلثة مجرّد حليف مسيحي يحتاج إليه الزعيمان الدرزي والسني، بل أيضاً زعيم القوة الأكثر تنظيماً واحترافاً وإيصالاً للصوت والصورة.
4 ـــ بمقدار ما يقود عون معركة استعادة التوازن السياسي من خارج الحكم، يطرح جعجع في أوقات متفاوتة أكثر من علامة استفهام حيال توازن سياسي وطائفي مفقود يقدمه تحالف 14 آذار الى الشريك المسيحي الأكثر فاعلية. الأمر الذي يعبّر عنه وزير القوات اللبنانية جوزف سركيس ونائب جعجع على رأس الهيئة التنفيذية النائب جورج عدوان. وفي كل مرة أثير هذا الموضوع سارع الحريري وجنبلاط الى تأكيد جدية الشراكة المسيحية في قوى 14 آذار. ودائماً، أو تكاد، تذهب الثمار إلى جعجع.
أين يقف الجميل إذاً من هذا الواقع؟
يؤكد أولاً أنه طرف رئيسي ومستمر في تحالف 14 آذار، يشارك في اجتماعاته كلها وفي بياناته، متمسكاً بالهدف الذي يجمعه بحلفائه الآخرين فيه، وهو استقلال لبنان وسيادته. ويعتقد ثانياً أن حزب الكتائب هو المرجعية المسيحية الوحيدة التي استهدفتها سوريا من داخله. وخلافاً لأنصار عون وجعجع الذين واجهوا السوريين في الشارع إبّان حقبة الوصاية عندما كان عون في المنفى وجعجع في السجن، فاقتصرت ضغوط دمشق عليهم على الملاحقة والمطاردة والاعتقال، توغّلت الاستخبارات السورية في الحزب منذ عام 1985 عبر الوزير السابق الياس حبيقة ثم لاحقاً عبر انقسامات الحزب نفسه وقيادات كتائبية والت السوريين فعمدوا الى نخر ه وتفتيته، الأمر الذي يدفعه حالياً الى توجيه اهتمامه الى إعادة بناء الحزب واسترجاع دوره التاريخي. وبمقدار ما يلاحظ ثالثاً متانة تحالفه مع جعجع، يعبّر عن قلقه من دعم عون و«حزب الله» ما يعتبره الجميل منحى انقلابياً لإسقاط سلطة قوى 14 آذار. ويرى أيضاً أن الوصول الى الحكم يكون بالوسائل الديموقراطية والمؤسسات الدستورية لا بالانقلاب. وإذ يجد في اللجوء الى الشارع للاحتجاج أمراً مشروعاً، يميّز بين هذا الخيار وانقلاب يريد استخدام الشارع لمحاصرة السرايا وإرغام رئيس الحكومة على الاستقالة. لكل شارعه، وليس في وسع أحد من الطرفين السيطرة عليه. وهو في رأي الجميل سيف ذو حدّين، من غير أن يغفل أن قوى 14 آذار أسقطت حكومة الرئيس عمر كرامي في الشارع يوم 28 شباط 2005، ولكنها لم تقل إنها تريد محاصرة قصر بعبدا لإسقاط الرئيس إميل لحود بالقوة.
غير أن مسحة التشاؤم لا تقتصر عنده على هذا الحدّ.