غسان سعود
سقط هدف الاجتياح. لم يقضِ 13 تشرين على العونيين، بل كان أشبه بولادة عونية ثانية. ولادة جيل قال عنه أحد الكتّاب الفرنسيين لبيار رفول، إنه جيل عون. حوّل هذا الجيل ذلك اليوم إلى ذكرى، واخترع منها ثقافة ترى في عسكريّي 13 تشرين المؤيدين لعون أبطالاً شبه خرافيين. وتحوّل شهداء ذلك اليوم من جهة، وفؤاد عون وكرم مصوبع وعامر شهاب وفايز كرم وصلاح منصور وفؤاد الأشقر وتوفيق ضومط ومئات العسكريين الذين أُرغموا على الاستقالة من جهة أخرى، إلى رموز عونية تحيطها هالة هائلة من التقدير. ووفق الثقافة العونية، أصبح كل العسكريين الذين خرجوا أو أُخرجوا من الخدمة بين عامي 1990 و1993 نماذج نضالية، لا يجوز التشكيك بعظمتها.
وعلى رغم هذه الثقافة العونية، يقول المعنيّون، كرّرت السلطة السلوك الغريب. فبينما كان بعض السياسيين يعتذر مباشرة أو غير مباشرة عن أخطاء السنوات الماضية، اختارت الأكثرية النيابية والوزارية الراهنة، أن توقّع مرة أخرى على اجتياح معنوي للثقافة العونية ورموزها. فبعدما تقدم عضو تكتل التغيير والاصلاح النائب ابراهيم كنعان بسؤال إلى الحكومة عن إجبار بعض الضباط والعسكريين على تقديم استقالتهم بطرق غير مشروعة بعد أحداث 13 تشرين، جاء الجواب أنه «لا يُمكن الجزم سلباً أو إيجاباً في ممارسة أية ضغوط على الضباط والعسكريين الذين وقّعوا على استقالتهم من سجن مزة أو من خارج لبنان أو بعد تشكيلهم بشكل انتقامي». وهذا أمر غير مفهوم، بحسب العميد فايز كرم، وخصوصاً أن القانون لا يجيز توقيع الأوراق الإدارية في السجن، إضافة إلى أن عدم توقيع الاستقالة كان سيدفع السلطة السياسية وفقاً للقانون إلى إقالتهم.
وفي التفاصيل: دخل الجيش السوري إلى وزارة الدفاع في اليرزة، وقبض على أبرز الضباط واختطفهم مع عشرات الجنود اللبنانيين ونقلهم إلى مقر قيادة الاستخبارات السورية في عنجر ومنها إلى المعتقلات السورية، وسط أجواء احتفالية عند بعض اللبنانيين. ويروي العميدان فؤاد الأشقر وفايز كرم أنهما نُقلا برفقة عددٍ من الضباط إلى سجن المزة. وصدر القانون 27/90 الذي نصّت مادته الأولى على «إعطاء الحق لكل ضابط في الجيش أن يتقدم باستقالته خلال ثلاثة أشهر من تاريخ نشر القانون». لكنهما لم يطّلعا عليه إلا قبل ستة أيام من انتهاء مهلته القانونية. ووقّعا على استقالتهم في مكتب رئيس سجن المزة العميد بختيار، بحضور العقيد اللبناني أحمد شديد، من دون أن يطّلعوا على تفاصيل القانون، أو على الوضع السياسي في لبنان. وكتبوا بالقرب من التوقيع، وفقاً للعرف، «المزة» إلى جانب التاريخ في أسفل الورقة. وبعد أقل من عشرة أيام في 11 ـ 3 ـ 1991 أُطلقوا، وكان في استقبالهم في عنجر وزير الدفاع السابق ميشال المر. وفوراً بادر الضباط إلى الكلام معه في شأن المرسوم، والاستقالات التي وقّعوها. فوعد المر بمعالجة المسألة. وبعد بضعة أيام، صعد الأشقر إلى مكتب وزير الدفاع في اليرزة، وطلب سحب استقالته، واضعاً طلب العودة عن الاستقالة على مكتب الوزير وخرج. لكن سرعان ما تبلغ المرسوم 1111/91 المتضمن قبول استقالة بعض الضباط في الجيش، من دون دفع التعويضات للذين خدموا أقل من خمس وعشرين سنة، ما دفع الأشقر إلى اللجوء إلى مجلس شورى الدولة. وعام 1998 حصل على حكم بإلغاء التسريح وإعادته الى الخدمة، ولكنه لم ينفّذ حتى اليوم. وكان الأشقر وكرم جدّدا الطلب بعد عودتهما مع العماد عون من فرنسا. لكنهما فوجئا برد الرئيس السنيورة المستند إلى رأي وزارة الدفاع. هذا الجواب الحكومي يكشف، بحسب النائب كنعان، «أن ثورة الأرز وشعارات السيادة والاستقلال كانت مجرد مواد استعملت للحفاظ على المواقع في السلطة».
هكذا هي ذهنية السلطة من وجهة نظر العونيين وثقافتهم. وهم لذلك يجعلون من 13 تشرين عنواناً لمرحلة لم تنتهِ بعد، ولا تنتهي، ربما، إلا باستعادة ما فُقد في تشرين الأول 1990.



ثلاث فئات
يُضاف إلى العسكريين الذين استشهدوا وأسروا وفقدوا في 13 تشرين، ثلاث فئات من الضباط والعسكريين الذين تعرضوا للضغوط. ويطالب التيار الوطني الحر اليوم بإنصافهم. قدمت الفئة الأولى استقالتها عنوة في السجون السورية. أمّا الفئة الثانية فأرسلت استقالتها من خارج الأراضي اللبنانية، نتيجة ضغوط تعرضت لها، فأعطي العسكريون مأذونيات لمغادرة الأراضي اللبنانية بعدما أُفهِموا بعدم الرغبة بوجودهم. وكانوا مخيّرين بين رفض الاستقالة والعودة إلى لبنان ليُسجنوا، أو رفض الاستقالة وعدم العود، أو تقديم الاستقالة.
أما الفئة الثالثة، وهي الأوسع، فتتألف من الذين بقوا في مراكز خدمتهم، وتلقوا أبشع أنواع الضغوط والتهديدات، حتى أجبروا بطريقة غير مباشرة على الاستقالة. ويُقدر عددهم بالمئات.





«باعة متجوّلون»
اعتبر العماد عون في رسالته الصوتية الأولى، أن 13 تشرين جريمة دولية ارتكبت في حق لبنان، وأن ذاكرة الشعب لن تجف. وفي العدد 11 من النشرة اللبنانية، قال بتاريخ 10/10/1997: في 13 تشرين تمت في لبنان أكبر عملية قرصنة دولية إقليمية... تجمّع العالم في أكبر حلف حديث تحت شعار «تحرير الكويت من الاحتلال العراقي»، وفي الوقت نفسه، أُعطي الضوء الأخضر لسوريا لاحتلال لبنان. وبعد سنة، كتب عون في الذكرى نفسها، أن «نواب الطائف هم أنفسهم نواب 17 أيار، جمهرة من الباعة المتجوّلين يتنقّلون من سوق إلى سوق لعرض بضائعهم وخدماتهم بأي ثمن... وفي الذكرى العاشرة لذلك اليوم، أكد عون أن «لا معنى للصفح ما لم يعترف المجرم بجريمته ويطلب الغفران».