غسان سعود
يُحيي التيار الوطني الحر يوم الأحد المقبل مهرجاناً في ذكرى 13 تشرين. مهرجان يعني بشكل أساسي
كلّ الذين خسروا في ذلك اليوم والداً أو ابناً أو زوجاً. لكنّه يعني أيضاً اللبنانيين الذين ضاع حلمهم فجأة، وما زالوا يبحثون عن سبل استعادته


لم تقرع لهم الأجراس، ولم تنثر الورود، ولم يرقص الشباب بنعوشهم الملفوفة بالعلم اللبناني في ساحات البلدات، ولم يُقلدوا أوسمة الشهادة. دفنتهم السلطة السياسية على عجل. قبضت الأمهات والزوجات على أنفاسهن، ولم يبكين «الأبطال» إلا في السرّ. أخبرن أولادهنّ روايات أخرى، قدّموا سبباً آخر لوفاة أزواجهنّ. غاب معظمهن عن القداديس التي كان يقيمها التيار الوطني الحر سنوياً، خوفاً من غضب المسؤولين السياسيين وحقدهم وانتقامهم مادياً ومعنوياً.
إحدى الأمهات ودّعت في ذلك اليوم ولدين «قرّرا المواجهة وعدم التوقيع على تسليم وطنهما». تحتفظ بقليل من تراب قبرهما، تحيطه بصور القديسين، تلمع عيناها، وتقول «كل من وقّع ورقة رسمية طوال الستة عشر عاماً الماضية، ويتكلم اليوم عن السيادة، عليه أن يذهب إلى المقبرة، ويركع أمام ضريح ولديّ ويطلب الغفران». تبحث بين صور ولديها، وتؤكد أن على أيدي الحاكمين دماً، هو دم ولديها. تنفعل فجأة، تعدّد أسماء «المجرمين ــ السياسيين»، وتسأل السيدة الستينية عن معنى كل ما يقولونه بعد كل الذي فعلوه. تتردد قليلاً، ثم تقسم بالله وتؤكد أنها لن تنسى كيف أطلق البعض النار ابتهاجاً، وكيف منعوها من وداع ولديها. تدعو الله ألّا يوفّقهم، وأن يذيقهم المرّ الذي ذاقته.
في مكان آخر، تبتسم الزوجات لإخفاء الغصة والدموع، ويتهرّبن من الإجابة. يرفضن الكلام احتراماً لقرار قيادة الجيش. لكنّ أبناءهنّ يكشفون عفوياً بعضاً من كثير. يقولون: والدنا البطل الحقيقي للاستقلال. نحن قدّمنا أغلى ما لدينا فداءً للحرية والسيادة والاستقلال بينما كان الآخرون يؤيدون الاحتلال.
كان يُفترض، بحسبهم، أن تنصف الدولة أبناءها، لا أن تستمر في تشويه تضحيتهم وخصوصاً بعد الخروج السوري من لبنان. كان يفترض، وفقاً للأبناء، أن يتوجه قياديّو 14 آذار إلى أضرحتهم، وأن يمسحوا بتراب المدافن الذلّ عن جباههم. كان يُفترض بـ«حكومة الحرية والسيادة والاستقلال» أن تبادر فور تسلمها السلطة، مرة أخرى، إلى تكريم الرائد جورج زعرب، والنقيب ألبير طنوس، والملازم أول جورج سلهم والرقباء إبراهيم عيد وشعلان البيطار وحنا أبو ملهب وأكرم حنا وفادي عبد الكريم وجورج شمعون وريمون حدشيتي وفريد فريحة وجوزف راشد ونبيل فارس وبسام شاهين ومئات الآخرين من لواءي الأنصار واللوجستي والمدرسة الحربية وفوج المغاوير والحرس الجمهوري. هؤلاء الذين «دفعوا الثمن، ثمن رفض الدخول السوري إلى بعبدا. في وقت أجمعت فيه الطبقة السياسية على اختيار السوري بديلاً من العماد عون».
أقسى ما في المشهد بعد الخروج السوري من لبنان، بالنسبة إلى عائلات شهداء 13 تشرين، عدم إعادة النظر في ما حصل في ذلك اليوم، وعدم استدعاء أحد للتحقيق، أو المطالبة بإنشاء محكمة دولية أو عربية أو محلية للنظر في انتهاكات حقوق الانسان التي حصلت في ذلك اليوم، باستثناء التيار الوطني الحر وبعض المؤسسات الإنسانية.
وتسجل مراجع حقوق الإنسان معاني كثيرة للثالث عشر من تشرين، تبدأ من الإفادات الطبية عن 73 جثة عسكري لبناني قتلوا بإطلاق النار على رؤوسهم من الخلف، وبعضهم كان معصوب العينين ومقيّد اليدين، فيما آخرون ذبحوا بالسكاكين وشوّهت جثثهم. ولا تنتهي الانتهاكات باختفاء عشرات المدنيين، وأبرزهم الراهبان الأنطونيان ألبير شرفان وسليمان أبي خليل، وأفراد عائلتي صياح وصادر في بلدة بسوس. أما إعلامياً، فأجمعت الصحف على انتهاء العماد عون وانكساره، وتخلي المواطنين عنه، واتهامه بالهروب تاركاً جيشه يخوض المعركة.
تتّكئ ابنة أحد شهداء 13 تشرين على ذراع والدتها، لتستعيد المشهد. كانت آنذاك في الرابعة من عمرها. تمسّكت بخصر والدها، رجته ألا يرحل، لكنه خرج... ولم يعد. حتى شهيداً لم يعد إلى المنزل. تتحدّث عن رغبتها في التقاط بعض من قطرات دمه، أو تمرير أصابعها بين شعر رأسه. تقول إنها كانت تقترب في تظاهرات التيار من العسكريين، لتخبرهم أن والدها استشهد من أجلهم ومن أجل الحرية والسيادة والاستقلال، وأن موقعهم يجب أن يكون إلى جانب الطلاب المتظاهرين، وليس في أي مكان آخر.
روي الكثير باسم تلك العائلات. استفزّها كثيراً القائلون لها إنّ الجنرال ترك رجاله في المعركة وخرج. تغضب من هذه العبارات، وتؤكّد أن خيار رجالها كان خيار الجنرال، وهم قدّموا أرواحهم مقتنعين بعظمة الواجب الذي يؤدّونه.
كان يُفترض بالثالث عشر من تشرين، وفقاً لأحد المخططين لتنفيذ الهجوم، أن ينهي الحالة العونية. ويشبهه بما حصل في الثالث عشر من تموز 2006: هدير طائرات حربية، قصف عشوائي، صمت دولي، تغطية محلية للعدوان بحجج مختلفة، آلة تحاول سحق شعب. فدولياً، أعلن مارك ديلون، يومها، باسم وزارة خارجية الولايات المتحدة الأميركية، معارضة العمل العسكري. أوري لوبراني، منسق الأنشطة الإسرائيلية في لبنان، أكد أن إسرائيل لا تقبل بتدخل عسكري سوري ضد عون، فيما أكدت فرنسا أن ليس ثمة ضوء أخضر دولي لعملية عسكرية. أمّا داخلياً، فكانت القوات اللبنانية تتابع أعمال القنص والقصف المدفعي والصاروخي، فيما توزعت المواقف الأخرى بين تأييد العمل العسكري السوري والسكوت عنه. حصل الاجتياح، دخل السوريون إلى قصر بعبدا ووزارة الدفاع، وسط موافقة وتواطؤ من الطبقة السياسية التي تناوبت على السلطة منذ ذلك اليوم.
عن المعركة، يقول العماد عون إنه كان قادراً على الهروب منها، والمشاركة في الحكم كأن شيئاً لم يحدث. لكن الموضوع، بحسب عون، لم يكن صراعاً على السلطة بل صراع على الوطن حيث لا يجوز الاستسلام لا شكلاً ولا جوهراً كما كان يطلب منه. وغالباً ما يردد أن ظروف المعركة كانت تقتضي أن يعرف الإنسان كيف يخسر لكي يكون أهلاً للربح. وتقول إحدى بنات الجنرال، إن والدهنّ ضمّهنّ إلى صدره عندما التقوا في السفارة الفرنسية، ثم ابتسم قائلاً: «نحن سنرتاح، لكنّ الناس سيتعبون». ويؤكد أنه أصر على كلمة استسلام لا تفاهم في النداء الأخير. من منطلق قانوني، لأنه سُحق بالقوة وكي لا يقع في خطأ تفسير الحدث.
يُذكّر السياسي الذي شارك في التخطيط للهجوم بقول كثيرين إن «التمرد» انتهى، وإن مرحلة من تاريخ لبنان قد ولّت. يستشهد برسالة الرئيس سليم الحص في اليوم نفسه، التي اعتبر فيها «أن صفحة تمرد ميشال عون طويت إلى غير رجعة». وكذلك قول الرئيس الياس الهراوي «إن العملية العسكرية أنجزت بسرعة، وقامت خلالها قوى الشرعية اللبنانية بمساندة مشكورة من القوات العربية السورية الشقيقة بواجبها المقدس من أجل حماية الدولة والمؤسسات». لكن العونيين كان لهم رأي آخر. فكتب المنسق العام للتيار الوطني الحر الدكتور بيار رفول في مذكراته ذلك اليوم: «لقد أزاحوا المتمرد على الإذلال والخنوع والقهر والظّلم ليتربّعوا هم أذناباً للمحتلّ ويخلدوا رموزاً للخيانة والعمالة والدناءة. لكنهم خسئوا لأن مسيرة التمرد، مسيرة التحرير مستمرّة، حصرمة في عيونهم وشوكة في خواصرهم، حتى النصر وإعادة الحقّ إلى أصحابه».
ومنذ ذلك الحين، بدأت عند العونيين مرحلة أخرى، عبّروا خلالها بأشكال مختلفة عن رفضهم الانسجام مع «الاحتلال السوري في لبنان» أو مع «السلطة العميلة له». ومن 22 تشرين الثاني 1990، بدأوا التحرك عبر تغطية الجدران في الشمال وبيروت وجبل لبنان بالشعارات العونية، قبل أن يفاجئوا الجميع في ليلة عيد الميلاد عام 1990، بتظاهرة سيارة ضخمة اتجهت نحو السفارة الفرنسية في الحازمية. ورغم كل محاولات تفريقهم، أوصل المتظاهرون صوتهم الى العماد عون، هاتفين له ومطلقين عنان أبواق سياراتهم بزمور «الجنرال» الذي أصبح كابوساً جديداً للسلطة اللبنانية، الأمر الذي دفعها الى إصدار قرار لا سابق له بمنع «الزمور» الشهير. ومن الزمور والصورة، مروراً بالمنشور والعمل الجامعي، وصولاً إلى التحرير، حقق العونيون وعدهم رغم الضربات الموجعة ورغم استهزاء السياسيين بأهدافهم. تبتسم الصبية، ابنة أحد الشهداء، وتقول «انتصرنا على 13 تشرين، سحقَنا العالم ولم نوقّع، أثبتنا أن 13 تشرين خسارة من دون ندم، وذل للرابحين».



تلفزيون و«بينغ وبونغ»

يقول اللواء عصام أبو جمرة إنه لم يصدق في صباح 13 تشرين أن «العالم كله تخلّى عنهم» وأن «كل شيء قد انتهى». وتؤكد كلودين عون، ابنة العماد عون، أن «كل نهار عاشته بعد ذلك اليوم كان إضافياً، لقد عشت كل الخوف الذي يسبق الرحيل». أما الرئيس السابق لفرع الأمن العسكري في استخبارات الجيش العميد فؤاد أشقر فيشير إلى شعور بالذل والانكسار. ويلفت إلى أن أبشع لحظة في حياته حين نزع النجوم عن كتفيه مع دخول الضابط السوري إلى مكتبه.
طلب الجنرالات من السفير الفرنسي تزويدهم طاولة «Ping pong» وانشغلوا بمتابعة الأخبار عبر التلفاز والصحف اللبنانية اليومية. ولجأ العماد عون إلى قراءة القاموس الفرنسي ليملأ وقته، وتسجيل رسائل صوتية إلى زوجته وبناته، إلى جانب كتابة مذكراته.
وفي إحدى ردوده على ابنته كلودين، يقول العماد عون: «على رغم صعوبات هذه المرحلة السوداء في تاريخنا، اعلمي أن المساعدة على خلاص لبنان تكون في نشاطاتكم ووجودكم وحتى في منفاكم. وإذا خلص لبنان تكونون قد شاركتم في تحريره، وإن سقط فسيرتاح ضميركم لأنكم بذلتم كل جهد ممكن في سبيل الواجب المقدس».
لاحقاً، في السابع والعشرين من آب، اجتمع مجلس النواب وأقرّ قانوناً فرض على الجنرالات الانتقال إلى فرنسا لمدة خمس سنوات. وفي اليوم التالي، حضرَ إلى السفارة مجموعة من المدنيين الفرنسيين يرافقهم جنرال فرنسي يدعى روندو، أبلغوا الموجودين خطة الانتقال إلى فرنسا. وانتقلوا في اليوم نفسه إلى شاطئ golden beach، ومنه عبر ثلاثة قوارب سريعة إلى باخرة عسكرية فرنسية متوقفة خارج المياه الإقليمية اسمها «أنكتيل» نقلتهم إلى قبرص حيث كانت طائرة فرنسية خاصة في انتظارهم. وفي فرنسا، توزع بعض اللبنانيين على الطريق بين المطار و«فيلا غابي» حيث استقر العماد عون رافعين شعار «الجنرال عون شرف فرنسا»، وهي العبارة التي قالها الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران في 13 تشرين.