نقولا ناصيف
يكاد يكون الرئيس أمين الجميل أكثر مَن خَبِر العلاقة بواشنطن حسنات ومساوئ. في سنة اجتمع بالرئيس الأميركي رونالد ريغان ثلاث مرات، في تشرين الأول 1982 وتموز وكانون الأول 1983. ولم يسبق لمسؤول لبناني، قبله وبعده، أن حظي باهتمام كهذا. آنذاك اضطلع السفير في بيروت روبرت ديلون ثم ريجينالد بارثولوميو بالدور الذي يضطلع به الآن خلفهما جيفري فيلتمان. وكان ثمة دور في الظلّ للسفير موريس درايبر الذي لعب دور الوسيط في المفاوضات اللبنانية ــ الإسرائيلية. كان مشاة البحرية الأميركية في بيروت، والضبّاط الأميركيون في غرفة عمليات عسكرية في وزارة الدفاع الوطني في اليرزة، والأسطول في عرض البحر. وكان كذلك مظليون فرنسيون وجنود إيطاليون. ثم انهار كل هذا تباعاً عندما انقلب الأميركيون على أنفسهم: من الالتصاق بلبنان إلى تجاهله تماماً ونعته بـ«الطاعون» على لسان وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز، ثم إلقاء هذا البلد في الفكّ السوري.
يقول الجميل عندما يُسأل عن مقارنة تجربته عامي 1982 ــ 1984 بواقع الدور الأميركي في لبنان حالياً بأن الأمر ينبغي ألا يؤخذ كالسابق على أنه رهان على واشنطن، بل يعتقد أن ثمة ما يمكن أن تلتقي عليه قوى 14 آذار وواشنطن:
ــ أن الأميركيين منحوا لبنان ما لم يكن في وسعه أن يتوقعه يوماً، ولا حتى أن يحلم به، بعد السنوات الطويلة من الوصاية السورية: القرار 1559 الذي أخرج الجيش السوري واستخباراته العسكرية من كل الأراضي اللبنانية وأنهى سيطرة دمشق على لبنان، والقرار 1701 الذي أقفل نهائياً بوابة الفوضى والصراع العسكري عند الحدود اللبنانية ــ الإسرائيلية وأدى كذلك مع نشر الجيش اللبناني والقوة الدولية في الجنوب إلى منع أي وجود مسلح خارج الشرعية اللبنانية.
ــ أن الأميركيين لا يقفون مع فريق أو حزب أو طائفة أو جهة لبنانية ضد أخرى، وإنما يدعمون أولئك المنادين بسيادة لبنان واستقلاله. وهم بذلك يعتبرون أنفسهم حلفاء القوى الاستقلالية ويساعدونها على تحقيق الأهداف التي قال بها القراران 1559 و1701. والمقصود إخراج لبنان من دائرة الصراع الإسرائيلي ــ السوري على أراضيه، وفي الوقت نفسه تعطيل الأسباب التي تمكّن كلاًّ من هاتين الدولتين من ممارسة نفوذهما في لبنان. ولا يبدّد ذلك، لدى الرئيس السابق للجمهورية، مخاوفه من تصاعد وطأة النفوذ الخارجي ودخول لبنان مجدّداً في دائرة صراعات إقليمية: محور إسرائيلي ــ إيراني، بعد محور إسرائيلي ــ سوري، ومن قبله محور إسرائيلي ــ فلسطيني.
ويعتقد الرئيس السابق أن من الضروري مقاربة المشكلات والحلول انطلاقاً من القرارين 1559 و1701 من جهة، وإعادة الاعتبار الى المسؤولية اللبنانية في إدارة الوضع الداخلي. وهو يشير الى الملاحظات الآتية:
1 ــ إن معارضته تغيير حكومة الرئيس فؤاد السنيورة ملازمة لمعارضته أي حكومة جديدة تمنح المعارضة ثلثاً معطلاً في مجلس الوزراء، والذي هو في رأيه «ثلث ناسف» لاستمرار الحكومة وقراراتها وليس معطلاً فحسب، والأحرى ألا يُعطى أي فريق حق النقض في مجلس الوزراء، وخصوصاً في مواجهة غالبية لانتزاع السلطة منها.
ويستعيد في هذا الإطار تجربة حكومة الاتحاد الوطني العشرية برئاسة الرئيس الراحل رشيد كرامي بين أعوام 1984 و1988 التي اضطرت بعد عام 1986 الى ابتكار فكرة «المراسيم الجوّالة» تفادياً لتعطيل آلة الحكم. كان التأثير السوري طاغياً على الحكومة العشرية بأن منح كلاًّ من أقطابها، ولا سيما رمزاها الحادان في معارضة الجميل نبيه بري ووليد جنبلاط، حق النقض. ونجحت دمشق في منع التئام الحكومة أكثر من سنتين ونصف سنة، ولم يرضها بعد اغتيال رئيسها المستقيل أن يعمد الرئيس سليم الحص الى تعويمها.
على نحو إمساك دمشق آنذاك بأكثر من الثلث المعطل في حكومة كرامي، يجد الجميل أن من الخطأ تخويل أي فريق لبناني لعب دور كهذا بذريعة إحداث توازن سياسي جديد، فينتهي الأمر بضرب استمرار الحكم.
2 ــ مهما تكن الاجتهادات التي يسوقها المعارضون في حملتهم على حكومة السنيورة طلباً لإسقاطها، فإن امتلاكها غالبية الثلثين في مجلس الوزراء حق دستوري ومشروع تستمدّه من كونها منبثقة من الأكثرية البرلمانية. وما دامت تمثل فريق الأكثرية فهي التي تحكم. مع ذلك فإن المرات التي لجأت فيها الى التصويت في مجلس الوزراء نادرة، اعتقاداً منها بالحاجة الى إدارة توافقية للصراع السياسي، وكذلك لآلية اتخاذ القرارات في السلطة التنفيذية.
ويرى الجميل أيضاً أن تسليم فريق 14 آذار بالتوافق يقتضي ألا يحرمه ما يسميه «حزام الأمان» الذي هو إمساكه بثلثي مجلس الوزراء لحماية موقعه كأكثرية حاكمة، والحؤول دون الوقوف عقبة في طريق إدارته الحكم.
ويلاحظ في ما تنص عليه المادة 69 من الدستور عن إمكان استقالة الحكومة إذا فقدت أكثر من ثلث أعضائها، سبباً ضمنياً لتبرير مطالبة البعض بالسيطرة على أكثر من الثلث المعطل الذي يعني، في نهاية المطاف، تجريد الغالبية من ثلثي مقاعد الحكومة. والواقع، يقول الجميل، أن المعارضة تريد من الحصول على الثلث المعطل الذي لا ينص عليه الدستور، تكريس عُرف دستوري في ممارسة سياسية.
3 ــ ليس ما يبرر انقلاب العماد ميشال عون على مواقفه قبل حرب 12 تموز. فحتى عشية هذه الحرب، يضيف الجميل، كان عون طرفاً متعاوناً في مؤتمر الحوار الوطني، ومعارضاً في مجلس النواب من غير أن يطعن في شرعيته، أو في شرعية حكومة السنيورة، ولم يكن يطالب بإسقاطها. بل ذهب الى حد إعلانه بعد اجتماع بالنائب سعد الحريري، الى أنه يلتقي وإياه على 98 في المئة من المواضيع. ويميّز الرئيس السابق للجمهورية بين نتائج ما أفضت اليه الحرب الإسرائيلية في الجنوب، ومسار اللعبة السياسية في الداخل.