جوزف سماحة
الإعلان عن سقوط مئات آلاف الضحايا في العراق. التفجير النووي الكوري. نشر سيناريوهات الحرب المقبلة مع إيران. استمرار المواجهات في أفغانستان. دفع الفلسطينيين نحو الاحتراب. تهديد النسيج الوطني اللبناني بعد حرب إسرائيلية همجية... هذه عناصر محدودة من مشهد عالمي، وشرق أوسطي تحديداً، تتحمّل الأصابع الأميركية مسؤولية مباشرة في رسمه.
ليس غريباً، والحالة هذه، أن تميد الأرض تحت أقدام الإدارة. لا يمر يوم إلا يخرج إلى العلن سرّ أو أكثر يصيبها في الصميم. وتستمر مع ذلك في الترداد التوتولوجي لمقولات وأطروحات توحي أن ما قد نشهده أكثر هولاً مما شهدناه. من يستطيع أن يتصوّر، من دون أن يصاب بالهلع، أنه باقٍ أكثر من سنتين على عمر ولاية جورج بوش.
يتلقى العالم رسالة رعب كل ساعة. ويتمنى لو أنه يستطيع إيقاف هذه العجلة التدميرية عند حدها. ويكتشف أن في وسعه مقاومتها شرط أن يساعده الناخبون الأميركيون، بعد أسابيع، بوضع أغلال في أيدي هؤلاء العابثين.
نحن أمام قوة عظمى دولية وحيدة أقدمت، في الوقت نفسه، على عملين منكرين: إلغاء الدبلوماسية والاستخفاف بالحرب.
منظّرو السياسة الخارجية الأميركية لا يعادون شيئاً قدر عدائهم للاستقرار، وموازين القوى، وإدارة العلاقات الدولية، وتشجيع التحولات البطيئة، والتركيز على القوة الوديعة، ووسائل الجذب والإقناع والإغراء. لذا فإن ميلهم الأول هو رفض التفاوض والمساومة والتسوية. يرون أن انتهاء الاستقطاب الدولي ضوء أخضر لهم لفعل ما يشاؤون ولإطلاق يدهم في إعادة صياغة الكوكب وأهله وأنماط اقتصادهم وسياستهم وثقافتهم و... أديانهم. التفاوض، في رأيهم، دليل استكانة وضعف وتطمين للأعداء وخطوة أولى نحو الاستسلام. كل عدو هو هتلر جديد وكل تباحث معه يحوّل القائم به إلى تشمبرلين وإلى عنصر تسهيل لحروب مقبلة لا محالة.
ومن يرفض التفاوض يجنح نحو رفض التعددية، وإشراك الآخرين، وإعطاء معنى لتحالفات ثابتة لا تُنقض عند أول اختلاف في ما يخص المهمات. وغالباً ما يختبئ رفض التعددية وراء شعارات كاذبة من نوع «تحالف الراغبين» وهو الأمر الذي لا يعني سوى التحاق البعض بالانفراد الأميركي.
ينهض على ذلك عداء متأصل للمؤسسات الدولية والمعاهدات والالتزامات. فهذه كلها قيود تمنع الولايات المتحدة من أن تعمّم على العالم الخير الذي تراه متجسداً فيها. لم يعد سهلاً إحصاء المرات التي شهدت تحللاً أميركياً من اتفاقات سبق لواشنطن أن كانت رائدة في الدعوة إليها لا بل في الضغط من أجل إقرارها. وكان المثال الأخير على هذه الدعوة إلى اعتبار العالم مكاناً خطراً على أميركا وقيمها هو نجاح الإدارة في تسويغ... التعذيب.
تتحدث الإدارة إلى نفسها عندما تريد التقرير في شؤون العالم. ترى أي مونولوغ تلقيه بمثابة حوار مضن. لا حوار مع الخصوم لأنهم «ضدنا» ولا حوار مع الأصدقاء لأننا «أعلى قامة منهم ونرى إلى البعيد». يمكن اعتبار طوني بلير ضحية من ضحايا هذا النهج لأنه مثال صارخ على نجاح شخص في إيهام نفسه بأن كلمته مسموعة. وإذا كانت هذه حال حليف استراتيجي بهذه الأهمية فلنا أن نقدّر حال «المعتدلين العرب».
من مظاهر إلغاء الدبلوماسية أن الولايات المتحدة توجّه تهديدات غير مرفقة بلائحة عقوبات. وإذا كانت الدبلوماسية نوعاً من التلويح بعقوبة وبمكافأة فإن واشنطن الحالية ألغت المكافأة ولم تعد مهتمة بتوضيح العقوبة. إن العبارة المحبّبة لأركان الإدارة عند الحديث عن سوريا مثلاً هي «ان المسؤولين في دمشق يعرفون ما عليهم أن يفعلوه». ولا يأتي في استطراد ذلك «أنهم إذا فعلوا كذا فسنردّ بهذا الشكل وإذا لم يفعلوه فسنقوم بهذا الفعل». ومثالاً على ذلك أيضاً كان بوش يكرر أن السلاح النووي الكوري «غير مقبول» ولا يوضح القصد من ذلك ولا ما الذي ينويه إذا لم يستجب له. وها نحن الآن أمام سلاح نووي يحوّل عبارة «غير مقبول» إلى مهزلة.
توجيه الأوامر أو إعلان الإملاءات ليس دبلوماسية. ولا هي دبلوماسية، أيضاً، محاولات التظاهر، كما مع كوريا أو إيران، بأن مجرد الحضور الأميركي إلى طاولة المفاوضات هو أقصى ما يمكن تقديمه. إن التهرّب من تحديد معالم التسوية يفرغ البحث من أي مضمون ويحوّل الدبلوماسية إلى تمارين إنشائية.
والواضح أن هذا الإنشاء لا يصمد طويلاً أمام التناقضات التي تسمح الولايات المتحدة لنفسها بارتكابها. ففي المجال النووي مثلاً يمكن القول إن واشنطن خرقت بنود معاهدة حظر الانتشار بنداً بنداً، في معرض المطالبة بالتطبيق الصارم لها على... آخرين. والأنكى من ذلك أن الصرامة لا تطال الآخرين كلهم. إسرائيل استثناء مديد. ولكن الهند استثناء قريب.
يكثر التنديد في الولايات المتحدة نفسها بهذا «النقص الدبلوماسي». ولكن قبل أن يعتقد أحد أن هذا البلد أسقط «السياسة» لأنه ينوي النجاح في حل المشكلات التي تواجهه بالقوة، قبل ذلك، يجدر القول إن النقد الموجّه إلى طريقة هذه الإدارة في «ممارسة» الحرب يكاد يتفوّق، وهذا طبيعي، على الطريقة في عدم ممارسة الديموقراطية.
كتاب بوب وودورد «حالة إنكار» هو أحد عشرات الكتب والتحقيقات عن كيفية سلوك إدارة بوش في المجال الذي تراه مميزاً لها وتسبّب بأن يصف الرجل نفسه بـ«رئيس حرب».
تقليص للجيش من جهة وتوسيع للمهمات من جهة ثانية. زيادة النفقات العسكرية من جهة ورفض فرض ضرائب من جهة أخرى. ثقة بالقيادات الميدانية من جهة وتهويل عليها من جهة أخرى. اعتماد الحرب الاستباقية من جهة والتعايش مع نقص المعلومات من جهة أخرى. ارتباك في التنسيق بين المستوى العسكري والمستوى السياسي وضمن الثاني. ارتجال. تخبّط. فشل في اختيار الرجال المناسبين. مؤامرات. الامتناع عن النقد. انعدام الفضول. تقديس الجهل. ازدراء بالضحايا على الجهتين. تزوير لأرقام الخسائر. فشل في الإعداد لما بعد القتال... يصعب أن نجد خطأ واحداً لم يُرتكب. لو كان تدمير العراق تماماً هو المقصود لما كانت اتّبعت سياسة أخرى.
الاستخفاف بالحرب ميزة قوم لم يحاربوا. إنه موقف استعلائي طبقي من وقود الحرب المدنيين وعنصري من ضحايا الحرب الآخرين.
عندما تتحدث كوندوليزا رايس عن آلاف الأخطاء التكتيكية في العراق فإنها تشير إلى أخطاء شابت سياسة صائبة. كلا. الحقيقة هي أن ما حصل فعلاً هو السياسة (الدبلوماسية والعسكرية) الوحيدة التي تُحسنها هذه الإدارة.