جان عزيز
تجزم أوساط مطلعة على تفاصيل العلاقة بين فريقي قريطم والثنائية الشيعية، بأن أمام الرئيس نبيه بري مهمة صعبة جداً، في محاولته الوصول الى تسوية بين الطرفين، وخصوصاً في الموضوع الحكومي كما طرحه «حزب الله»، وفي موضوع سلاح «الحزب»، كما تطمح الأكثرية الحكومية.
وتشير هذه الأوساط الى أن المواقف الإيجابية الصادرة من بعض أركان الفريقين، ليست مؤشرات فعلية الى تقدم ملموس في المساعي الجارية، بقدر ما تمثل محاولات لتجميل حقيقة العلاقات والنيات بين الطرفين. وتلاحظ أن بري كان أول من اعتمد هذا الأسلوب منذ حرب 12 تموز الماضي. والأسلوب التجميلي نفسه يبدو أن النائب سعد الدين الحريري تبنّاه في الأيام القليلة الماضية، وخصوصاً بعد زيارة بري الى الرياض، مجاراة لتكتيك رفع المسؤولية أو إظهار حسن النية، فيما المواقف الحقيقية هي أقرب الى ما أعلنه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة في حديثه الأخير الى صحيفة «واشنطن بوست»، والى ما خبره وذاقه بري نفسه طيلة 33 يوماً من الحرب.
وتكشف هذه الأوساط أن المفاوضات التي دارت أثناء الحرب، بين السنيورة من جهة وبري و«حزب الله» سمحت للطرفين بسبر حقيقة مواقف كل منهما، حتى إن توصيف «الكشف عن الأنياب»، قد يكون الأدق لتشخيص انطباعات الطرف الثاني عن نيات الأول. وتشرح أنه بات جلياً بالنسبة إلى الطرفين أن ثمة مسألتين تمثّلان خط التناقض الجوهري بينهما وبين طروحاتهما. والمسألتان هما السلاح، والاستقواء بالدعم الخارجي لضرب هذا السلاح. حتى إن بري عبّر للخلصاء من مفاوضيه طيلة أيام الحرب، عن أكثر من غضب ومرارة واستهجان واستنكار، حيال مواقف الأكثرية الحكومية من المساعي التي كان يقودها في حينه لوقف النار وإنهاء العمليات العدوانية الإسرائيلية. حتى إنه أبلغ ذات مرة المعنيين بأنه بات يعتبر التفاوض مع الأميركيين أسهل منه مع الأكثرية الحكومية.
وتستدرك الأوساط نفسها بالقول إن العودة إلى تلك الوقائع والحقائق اليوم، ليست من باب وضع العراقيل في السبيل الممهّد، بل من باب إدراك الصعوبات الفعلية القائمة راهناً، تجنباً لأي أوهام قد تنتج خيبات أمل جديدة، أو تثميناً لأي نجاح ممكن أن يتحقق في هذا المجال. وتتابع مستذكرة، كيف أن بري ظل أياماً طويلة يتساءل ويسأل المعنيين عن مغزى الشرط الذي ظل يكرره أمامه السنيورة، بأنه يريد «حلاً كاملاً» قبل الموافقة على وقف النار. وكيف أن رئيس الحكومة كان يرفع يديه أمامه مردداً تلك العبارة «بلهجة شامية واضحة»، قبل أن يتأكد المعنيون من أن «الحل الكامل» المطلوب هو نزع سلاح «الحزب» في وسط المعركة، وتحت النيران الاسرائيلية.
وتتابع أنه حين ثبتت على الأرض استحالة تنفيذ هذا الطلب عسكرياً وبالقوة، لم يتأخر فريق الأكثرية الحكومية في الإعراب عن رهانه على قرار دولي تحت أحكام الفصل السابع من شرعة الأمم المتحدة، لتحقيق مطلبه. وعند كل جولة تفاوض كان الثنائي الشيعي يسأل السنيورة عن موقفه من احتمال لجوء مجلس الأمن الى الفصل السابع، ليرد رئيس الحكومة نافياً وجازماً بالرفض، وهو ما يجعل بري يتسلّح بهذا الموقف في مفاوضاته على هذه النقطة بالذات مع مساعد وزيرة الخارجية الأميركية ديفيد ولش، أثناء زيارته الى بيروت. لكنه حين أبلغ المسؤول الأميركي «رفض الدولة اللبنانية» أي بحث في تطبيق الفصل السابع والتزام حدود الفصل السادس، فوجئ بري بولش يجيبه واثقاً ومع بسمة معبّرة: «لكنني أعتقد أن حكومتكم توافق على شيء ما يقارب الـ6،9».
وتكشف الأوساط المطلعة نفسها أنه حين أبلغت قيادة «حزب الله» بتفاصيل هذا الوضع، اتخذت قرارها بوقف التفاوض وقطع قناة الاتصال مع السنيورة كلياً. واستمرت الأمور على هذه الحال طيلة أيام، قبل أن ينجح مسعى بري الشخصي لدى قيادة «الحزب» في إعادة الاتصال. فوافقت الأخيرة شرط أن يكون استئناف التفاوض بمشاركة بري نفسه وفي حضوره شخصياً. وعند هذا الحد عقد لقاء ثلاثي بين بري والسنيورة وممثلي «الحزب» في عين التينة، لجلاء النقطة ــ العقدة الأساسية: هل تقبل الأكثرية الحكومية بقرار دولي ضمن الفصل السابع، يمهد لنزع السلاح؟ وكما في كل مرة ردّ السنيورة بالنفي. فقال له بري: «حلّت الأزمة إذاً، تفضّل وأرسل كتاباً خطيا الى الأمم المتحدة، تبلغها بموجبه موقفك هذا». فاعتذر السنيورة فوراً، مؤكداً أن هذا موقفه فعلاً، لكنه لا يمكن أن يبلغ نيويورك به خطياً، لأن ثمة من أسدى إليه نصيحة واضحة، بألاّ يسجّل على نفسه رفض أي أمر صادر، أو يمكن أن يصدر، عن الشرعية الدولية.
ولم تنفع محاولات بري الشرح للسنيورة كيف أن المستوطنين المدنيين في شمال إسرائيل يعيشون حياتهم اليومية وهم متنكبون بنادقهم وأسلحتهم، وكيف أنه لا يمكن للحكومة اللبنانية في المقابل أن تستدرج المجتمع الدولي لنزع السلاح من جهة واحدة، بحسب رأيه. ورغم كل المساعي، انتهت الحرب العسكرية في 14 آب، الى تأكيد معكوس لنظرية كلاوشفتز، بأن الدبلوماسية استمرار للحرب بوسائل أخرى. فما خلّفته حرب 12 تموز في النفوس بحسب المطلعين، يمثّل جبل الجليد الذي يلوح مجرد رأسه في نصوص التصاريح والمواقف الإعلامية. ولذلك فهي ترى أن الثغرة الحقيقية الوحيدة القادرة على خرق هذا الجدار تتمثل في الاقتناع بإجراء تغيير حكومي، وإلاّ فالمأزق مستمر. فهل تُنضج الظروف الداخلية والإقليمية والدولية ثغرة كهذه، قبل انقضاء الأيام العشرة الباقية من وعد «عيدية» بري؟