جوزف سماحة
إذا شوهد طوني بلير يبتسم بعد اليوم، ابتسامة الواثق من نفسه وذكائه الخارق، والمفتون بآخر جملة قالها، إذا شوهد على هذه الحالة فهذا يعني أن دفاعاته أقوى مما نحسب.
لقد تلقى الرجل صفعة. وأي صفعة! لا تقل عن اكتشاف الحركة الشعبية البريطانية المعترضة على التورّط في حرب العراق، قائداً جديداً لها في شخص رئيس أركان الجيش البريطاني الجنرال ريتشارد دانات.
لم تمض أسابيع على تعيين السير دانات في منصبه الجديد حتى بدأ يتبرّم. أطلق تحذيراً أولياً قبل أسبوعين. لم ينفع. قرر استخدام المدفعية الثقيلة. تحوّل «الصامت الأكبر» إلى المهاجم الأول، وعلناً، للعمود الفقري الذي بنى عليه بلير سياسته الخارجية منذ سنوات: الالتصاق بحرب بوش العراقية ولو قاد الأمر إلى الخراب.
قد تكون الصدفة وحدها وراء التزامن بين التقرير المرعب عن مئات آلاف العراقيين الذين قتلتهم الحرب وتفاعلاتها وبين كسر دانات لصمته. إلا أنها صدفة ذات مغزى ويفترض بها إن لم تطلق رصاصة الرحمة على الوجود العسكري البريطاني في العراق أن تطلق، على الأقل، بدء العد العكسي له.
يدعو رئيس الأركان إلى مغادرة سريعة ويرى أن البقاء بات جزءاً من المشكلة لا من الحل. يلاحظ أن قوات الاحتلال غريبة في أرض مسلمة وأنها غير مقبولة. يسخّف نظرية بناء الديموقراطية الليبرالية بالقوة. يحذر من خطر الحرب على المجتمعين العراقي والبريطاني. يستطرد في استعراض الارتدادات على بلاده حيث يلوح خطر انهيار العلاقة بين الأمة والجيش، وحيث ينمو الفراغ الروحي والأخلاقي، وحيث يسيء المدنيون المعترضون على المهمة في العراق معاملة الجنود الجرحى العائدين من أرض المعركة.
مطالعة كاملة. سيحاول الجنرال توضيح بعض مقاصده ولكن ما قيل قد قيل. إنه محضر اتهام ضد السلطة السياسية يطرح سؤالاً ملحاً عن كيفية استقبال الجنود البريطانيين لتصريحات رئيسهم وهم يجولون في الشوارع العراقية ليخوضوا مواجهات لا أفق لها.
ليس دانات من «أنصار السلام». إنه مقاتل. وهو، في الواقع، لا يخشى الحرب بل الفشل. لذلك فهو يميّز بين العراق وأفغانستان ويبدي حيال البلد الثاني قدراً من التفاؤل بالنجاح. لا يتردّد أبداً في استخدام صياغات ذات صلة مباشرة بصدام الحضارات والطابع الثقافي اليهودي ــ المسيحي لبريطانيا مقابل الإرهاب الإسلاموي. إنه يضع نفسه في جبهة محاربة التطرف ولكنه، بصفته مسؤولاً عن جنوده، يقر، بموضوعية، بفشل المغامرة العراقية.
ثمة مجال للاعتقاد بأن رئيس الأركان البريطاني ما كان ليقول ما قاله لولا أن آثار الحرب في العراق قد انعكست بوضوح على الوضع البريطاني الداخلي. لقد بات الجيش، بما هو مؤسسة، محاصراً من أكثرية لا تثق بالقيادة السياسية ولا بقراراتها ولا بأدوات تنفيذ هذه السياسة. ولقد سبقته هذه الأكثرية بما هي بريطانية ولكن، أيضاً، بما هي «عمالية»، إلى الاستنتاجات التي توصّل إليها وكانت له جرأة الإفصاح عنها.
لا يمكن فهم المغزى العميق لإدانات دانات إلا إذا تذكّرنا أمرين. الأول هو أن أداء القوات البريطانية، بما هي قوات احتلال، كان النموذج الذي يضربه البعض عن الإنجاز في مواجهة الإخفاقات الأميركية. الثاني هو أن هذه القوات تعمل في مناطق كانت متأرجحة بين الترحيب والحياد بوفود القوات الأجنبية الغازية. ويشير رئيس الأركان بصراحة إلى تحوّل تدريجي من الموافقة على وجود هذه القوات إلى التسامح معها إلى عدم التسامح. وتؤكد هذه الملاحظة ما ذهبت إليه استطلاعات الرأي العام وأهمها ما أجرته جهات أميركية رسمية. فلقد أفادت أن أكثرية عراقية واضحة بين عرب العراق، أي بين السنّة والشيعة، تعارض بقاء الاحتلال وتدعو إلى رحيله سريعاً وترى فيه عنصر توتير لا أداة حل.
هل قضي الأمر؟ هل يفترض البدء بإعداد مراسم الوداع؟ هل جلاء الاحتلال بات في الأفق القريب؟ الجواب صعب. فبلير سيقاوم. والأهم من ذلك أن الإدارة الأميركية ستحاول، قدر الإمكان، تأخير الاستحقاق، بالرغم من وجود أكثرية شعبية ميالة إلى هذا الخيار. يجب أن ننتظر، ربما، تحول هذه الأكثرية إلى أصوات في الانتخابات النصفية بعد أسابيع. ويجب أن ننتظر تبلور كتلة ضاغطة ضمن الحزب الجمهوري نفسه تدعو إلى انتفاضة محافظة على المحافظين الجدد وترغم بوش على الحسم بين معسكرين ضمن اليمين.
ربما كانت الجملة الأكثر أهمية في ما أدلى به دانات هي تلك التي يصف فيها المبالغة في التفاؤل بأهداف الحرب. يقول «كانت النيّة الأصليّة إنشاء ديموقراطية ليبرالية تتحوّل إلى مثال للمنطقة وتكون ميّالة إلى الغرب وذات تأثير إيجابي على ميزان القوى ضمن الشرق الأوسط».
لقد فشل المشروع في كل نقطة من نقاطه. الثمن الذي دفعته المنطقة، والعراق، لقاء ذلك، كان فادحاً وسيزداد فداحة. غير أن ذلك كان الممر الإجباري، ولا يزال، حتى لا يسقط الشرق العربي، أكثر مما هو ساقط، في عهد كولونيالي جديد ومديد.
هل تسلّم واشنطن بالفشل؟ هل تهرب إلى الأمام عبر توسيع المواجهة؟ هل تفعل ذلك بعد ما حصل في لبنان؟ هذه الأسئلة ذات أجوبة معلّقة.
وقد ازداد الوضع تعقيداً بعد التفجير الكوري، وبعد أن تنطّحت قوى عربية لعرض دور لها وللتبرّع بالمساهمة في اختبار القوة الدائر في فلسطين وفي لبنان والمتدرّج في سياق المنازلة العامة.
هناك من سيميل إلى قراءة التلويح بالانسحاب البريطاني القريب من العراق بصفته استنقاذاً لـ«رهائن» من احتمالات حرب مقبلة مع إيران. قد لا تكون هذه نية رئيس الأركان. لكن ذلك لا يمنع أن هذه الفرضية لها صدقية، وصدقيتها نابعة من «حال الإنكار» في الإدارة الأميركية.
لقد أحصى جيفري سميث (واشنطن بوست أمس) 37 مرة استخدم فيها جورج بوش تعبير «غير مقبول» هذا العام مقابل 5 مرات في 2003 و18 مرة في 2002، و14 مرة في 2001. عندما يقول بوش «غير مقبول» فهو يعبّر عن رفض للواقع متناسياً أنه إن لم يكن مسؤولاً عن إنشائه فهو، على الأقل، مسؤول عن السعي إلى تغييره.
يعبّر هذا السلوك «الرفضوي» عن «حال الإنكار» التي باتت مصدر خطر مؤكد على المنطقة وغيرها. إلا أنه خطر يتراجع الخوف منه عندما يدعو رئيس أركان «الجيش الحليف» إلى نهج مخالف لما يدعو بوش إليه ومتقارب مع ما يدافع عنه معارضو الرئيس الأميركي.