ابراهيم الأمين
لم يكن ينقص العارفين أو الواقعيين “المطر البرتقالي” حتى يدركوا حقيقة ما يمثله التيار الأكثر شعبية في تاريخ الشارع المسيحي. ولم اللبنانيون عموماً يحتاجون الى ما يثبت لهم صورة الرجل القادر على فهم ناسه وأهله حتى يذهب معهم الى حيث يجب، لا أن يقودهم حيث يرغب ولا أن يأخذهم ولا يعودوا.

في الشكل اولاً، كان ثمة ردة فعل غير متوقعة بهذا الحجم للمبالغة التي اتسمت بها تحضيرات واحتفالات “القوات اللبنانية” بـ“يوم الشهيد” وبخطاب أعاد للمسيحيين ذاكرتهم المثقلة بالأيام السوداء. وشعروا مرة جديدة بأن هناك من يحاول خطفهم من جديد نحو خيارات غادروها بقوة الدم لا بأشياء اخرى. كما كانت هناك ردة فعل أكثر قوة لما صدر عن المطارنة الموارنة في شأن رفض التغيير الحكومي، حملت انطباعاً بأن الكنيسة إما موافقة على التهميش الذي يصيب المسيحيين وإما هي باتت طرفاً في الانقسام السياسي في البلاد واتخذت جانب فريق الاكثرية الحاكمة. وفي الحالتين كان لدى جمهور التيار الوطني الحر ما يكفي لقول الكثير من الكلام والتعبير عن رفض ما حصل والتأكيد على ان كل ما مرّت به البلاد في الآونة الاخيرة لم يحدّ من جمهور التيار وقائده، ولا سيما عند المسيحيين.
وفي المضمون، لم يتصرف العونيون على أنهم طرف ملزم بإثبات حضوره الشعبي، كما لم يكن التيار في موقع المطالب بإثبات القدرة العملانية على أنه يقدر على تجييش شارع بوجه شارع آخر، حتى إن عشرات الألوف الذين خرجوا الى الشوارع تحت المطر لم يبادروا الى رفع لافتات ولا الى ترداد شعارات من النوع الذي يعدّ رداً على آخرين.
وفي ما خص الخطاب نفسه، فإن هناك من تصوّر عون رجلاً متوتراً يريد استغلال الحشود والتعبئة التي قامت في صفوف مناصريه ومناصري حلفائه من أجل الدعوة الى عصيان سياسي من النوع الذي يقود البلاد الى فتنة كالتي تعمل عليها الأكثرية الحاكمة ليل نهار. لكن خطاب عون جاء من حيث ترتيبه أقل غضباً من حال الحشود التي خرجت الى الشوارع. وفيه الكثير من عناصر المحاضرة التي ربما لا تتناسب مع مهرجان جماهيري. ثم حمل الخطاب لغة الطرف المرتاح الى واقعه السياسي والشعبي، والمتأكد مرة جديدة من ان خياراته السياسية ليس فيها من مخاطر تنفير جمهور يعتقد كثيرون أنه متعود فقط على الكلام المتقوقع. حتى جاء كلام عون مفاجئاً لناحية أنه لم يحاك الضمير المسيحي بمعناه الانعزالي، بقدر ما حاكى العقل البارد عند المسيحيين الساعين الى دولة توفر لهم مشاركة حقيقية، عدا عن ان عون دلل مرة اخرى على تمايزه عن بقية التقليد السياسي، القديم منه والمجدد له، في مقاربته لأصل المشكلات اللبنانية، الداخلية منها والخارجية.
فهو ثبت ما قاله طوال فترة نضاله ورفاقه للسلطة السابقة وداعمها السوري. وأكد على افكاره الخاصة بحلم بدولة ومواطنة توفر لناسها الحقوق دون تمييز سياسي او طائفي او مناطقي. ثم هو ثبت ما قاله منذ عودته الى بيروت من ضرورة عدم الخروج من وصاية للعمل تحت ظل وصاية أخرى. وهو أقفل الصراع اللبناني مع سوريا وأعاده الى النصاب المتصل بافق العلاقة بين البلدين، ثم هو أكد على فهمه لوظيفة المقاومة ضد العدو الاسرائيلي، وكرر تأكيده على دورها في ظل غياب الدولة العادلة والقادرة، وهو الضابط الذي عمل وخدم في الجيش سنوات طويلة ويعرف دوره وإمكاناته ولكنه يعرف بالضبط الدور الوطني الجامع الذي تقدر المقاومة على لعبه. ولم يخرج عن قناعاته التي جعلته شريكاً في النصر الذي تحقق على إسرائيل، وحاول كثيرون جعل موقفه هذا عبئاً على تركيبته من خلال الإيحاء بأن تأييد مقاومة الاحتلال الاسرائيلي أمر يناقض الثقافة العامة للمسيحيين، أو كأن هؤلاء يريدون القول بأن المسيحيين هم ضد المقاومة او هم ضد من يقاوم اسرائيل. ومن رفع هذا الشعار وعمل على تغذيته طوال فترة العدوان هو الفريق الذي جرّ المسيحيين خصوصاً والبلاد عموماً نحو ويلات متعددة بسبب اعتباره أن محاباة إسرائيل أو التصرف بلامبالاة إزاء عدوانها او رفض مقاومتها او التعاون معها فيه خير للبلاد وفيه خير للمسيحيين.
أما الأمر الأكثر دقة فهو المتصل بالدور الداخلي، حيث كرّر عون برنامجه على شكل محددات لسياسة التيار خلال المرحلة المقبلة. وهو قال كلاماً هادئاً فيه رغبة الحوار مع الآخرين، كل الآخرين، وفيه التأكيد على ان الحوار ليس وسيلة للمخادعة ولا لفرض نمط من الحكم او لفرض نمط من المشاركة كالتي فرضت على المسيحيين خلال السنوات الـ15 الماضية أو كالتي يرضى بها مسيحيو الاكثرية من الذين يعملون بوحي وبإمرة الثنائي وليد جنبلاط وسعد الحريري.
في جانب آخر، تبدو الصورة قاتمة لناحية أن فريق الأكثرية لن يتجاوب مع عون، وسوف يعتبر موقفه الداعي الى تغيير حكومي قبل أي خطوة اخرى بمثابة استجابة لرغبات فريق آخر، وكأن المطالبة بتصحيح التمثيل السياسي تخص فريقاً فئوياً او كأن التمثيل المسيحي له من يمثله بحق في الحكومة القائمة. إلا إذا كان “الثلاثي غير المرح” الذي يضم سمير فرنجية والياس عطا الله وفارس سعيد، يجد في استنفار مناصري عون امس حركة لبضع مئات من عملاء المحور الإيراني ـــ السوري او هم اعضاء في حركة امل ارتدوا قمصاناً برتقالياً او ان الشابات هن من حزب الله وكُلفن بنزع الحجاب لدعم الجنرال.
ومع ذلك، فإن ما أعلنه عون في خطابه امس وما سوف يليه من تعميق للتفاهم السياسي على طريقة التعامل مع السلطة القائمة، سوف يكشف مزيداً من التأزم عند سلطة يبدو أنها عادت الى ألاعيب الاجهزة الامنية البائدة بغية جر البلاد الى مواجهة وفتنة وحالة طوارئ لوهم بأن القوات الدولية تنتظر إشارة للانتشار في بيروت وجوارها.