جوزف سماحة
قد تكون فضيلة «تأجيل» مهرجان «التيار الوطني الحر» أننا سنعيش يوماً لبنانياً سياسياً وإعلامياً يتراجع خلاله منسوب... التزوير. وإذا كنا قد تجاوزنا، بالفعل، التقليد الناشئ الخاص بتعداد المحتشدين، فإن الباقي أمامنا هو الخطاب الذي ألقاه العماد ميشال عون. ولكن، هنا أيضاً، خشية من أن يبتلع المستنقع السجالي احتمال التعاطي الجاد مع كلمة منتظرة.
لقد تأكد أمس، الدور القيادي لـ«التيار» ضمن البيئة المسيحية. ليس المقصود بـ«الدور القيادي» حجم التمثيل فحسب، بل مستوى النفوذ أساساً، والقدرة على التدخل لصناعة رأي عام. ربما كان المعيار الثاني أفضل لقياس فاعلية القيادة.
كانت الأنظار متّجهة إلى المناسبة، بعد حرب الصيف الإسرائيلية على لبنان وما صاحبها وتلاها من اتهامات وشعارات وحملات وتوترات. وكان كثيرون يرصدون عون لمراقبة كيف سيتمكن من وضع سياسته في المرحلة الأخيرة في سياق التوجّه إلى الفئات التي ينطق باسمها من أجل مساعدتها على بلورة وعيها وإدراك موقعها في لبنان وأزماته وعلاقاته الإقليمية والدولية المتشابكة.
ولقد تعمّد الجنرال طرح تصوّر ورؤية تتضمن سجالاً ضمنياً مع تصورات ورؤى أخرى. فعل ذلك متجنباً السقوط في فخ رد الفعل، ولكن من دون أن يتهرّب من تحديد وجهة إجمالية تحسم في ميوله التحالفية وفي نهجه الاعتراضي.
إذا شئنا إطلاق وصف عام على خطاب أمس أمكننا القول إنه خطاب نموذجي للطبقات الوسطى الحديثة والمسيحية. هذه هي ميزته الأولى. إنه خطاب الطبقات الوسطى الحديثة في طريقة تعرّضه لعناوين من نوع: الديموقراطية وسيادة الإنسان على نفسه، حقوق الإنسان، المساواة بين المرأة والرجل، الأبعاد الحقيقية للمواطنية، المجتمع الإنساني والعادل، التضامن مع الفئات الضعيفة والمهمّشة، حكم القانون، الإدارة الحديثة والصالحة، الهم الاقتصادي والاجتماعي، اقتصاد التنمية وإدارة الخصخصة بجدية، محاربة الاحتكارات، إعادة صياغة النظام الضريبي (ثمة تطوّر ملحوظ قياساً إلى البرنامج الانتخابي لـ«التيار»)...
هذه كلها شعارات خاصة بالطبقات الوسطى الحديثة أو التحديثية. وإذا كان هناك من يقول إن زعماء كثيرين يرفعونها، فالرد على ذلك، وهذا تقويم معياري، هو أن صدقيّة معينة تفيض من عون وهو يقولها، وهي صدقية يعززها ما هو معروف عن التركيبة السوسيولوجية لـ«التيار».
أما القول بأننا أمام خطاب طبقات وسطى مسيحية فالقصد منه لا يتجاوز الإشارة إلى أنه خطاب يغرف من تراث ثقافي نافذ ضمن هذه الجماعة الوطنية، وهو غير راغب في القطع معها وإن كان واضحاً في سعيه إلى إعادة إنتاج هذا التراث وفق شروط جديدة هي شروط لبنان الحالي.
يتّضح ذلك، مثلاً، في الموقف من سوريا. إنه موقف يمكننا تسميته «التغيير ضمن الاستمرار». فعند التطرق إلى مرحلة «الاحتلال»، والمناسبة تفرض ذلك، لا مجال إلا للوضوح. غير أنه وضوح خالٍ من «ثأرية» قبلية. فالعلاقة، بعد الانسحاب، غيرها قبله، أو هكذا يفترض. على أن ذلك مشروط بعناوين معلّقة تبدأ بترسيم الحدود وتبادل العلاقات الديبلوماسية ولا تنتهي ببت قضية المفقودين. لقد رد عون على منتقديه الذين يتهمونه بالالتحاق بالمحور السوري ــ الإيراني، ولكنه، في الوقت نفسه، ميّز نفسه عن «حلفاء» لا يملكون، بالضرورة، قراءته لهذه المرحلة من تاريخ لبنان. بقي ملتصقاً بتاريخه وجمهوره، لكنه تحمّل مسؤولية الدعوة إلى فتح شروط لعلاقة من نوع جديد مع سوريا.
لا يمكن فصل هذا الرأي، وهو حسّاس جداً، عما أظهره الخطاب من نزعة سيادية أصيلة. برز ذلك في رفض استبدال عنجر بغيرها، وفي توجيه التحية «إلى من سطّروا البطولات دفاعاً عن الوطن في وجه كل عدوان إسرائيلي على لبنان»، وفي انتقاد الحكومة على دورها في الحرب الأخيرة، وفي التحذير من «السياحة السياسية في العواصم الغربية»، وفي الحسم أن حرب تموز انتهت إلى انتصار حقيقي... لقد تحمّل عون الكثير من الهجمات نتيجة ما قام به خلال العدوان الإسرائيلي الأخير. وقيل إن ذلك هو السبب في انهيار شعبيته في البيئة المسيحية. إلا أنه عاد إلى الموضوع مصرّاً على نهجه، ومعطياً للسيادة مفهوماً يفتقده «السياديون الجدد». وإذا كان من ملاحظة في هذا المجال فهي أن «التيار» نجح في أن يجعل من موقفه حيال «العدو الإسرائيلي» موقفاً يتسرّب إلى كوادره وقواعده وينعكس على علاقة الهرم كله بمواطنين آخرين. هذا مكسب ثمين جداً لا نراه في الصياغات التحالفية التي أقامتها «الأكثرية» بين أطرافها، وقد لا تبرز مفاعيله الكاملة إلا لاحقاً. أما الزعم أن هذه «المغامرة» مكلفة لصاحبها فأمر يقصر العمل السياسي القيادي على ركوب الموجات بانتهازية، ويقلّل من شأن المراجعة التي قامت بها نخب مسيحية لتجربتها المريرة مع إسرائيل.
تبرز الحساسية المسيحية للخطاب في الاعتراض العالي النبرة على التهميش الناجم عن النزعة الاستئثارية للفريق الحاكم. ليست هذه الحساسية طائفية بالمعنى الرديء للكلمة، فمن الممكن لأي «علماني» أن يلاحظ كم أن الأكثرية الحاكمة تخرق قواعد العمل الخاصة بالنظام الطائفي القائم. لم يستخدم عون، مرة واحدة، تعابير ومصطلحات واضحة. ولكن لا معنى آخر للدعوة إلى حكومة اتحاد وطني وإلى قانون انتخابي جديد وإلى «إعادة تأسيس سلطة وطنية». ويمكننا، من دون خوف المجازفة، أن نفسّر بعض التجاوب الشعبي مع عون بهذا الشعور الحاد الذي يسود في البيئة المسيحية بأن الصرخة الصادرة من الأعماق لطلب المشاركة لا تلقى سوى آذان صمّاء. تعاني الأكثرية الحاكمة، في هذا المجال، انعداماً كاملاً للحساسية لا يذكّر بشيء أكثر من تذكيره بما كان الوضع عليه في لبنان عشية 1975.
أشاد نائب «أكثري»، قبل أيام، (وهو، على ما يزعم، ناصري سابق) بالشبق «الكياني» الذي ينتابه. فعل ذلك ليلوم «التيار الوطني». ولكنه أغفل تماماً أن «الشبق» الفعلي الذي يعيشه هو إلى احتكار السلطة. أما «التيار»، بحسب خطاب أمس، فإنه قاد جمهوره إلى مصالحة مع المحيط تتمثّل في الموقف من سوريا (بعد الانسحاب) وفي الموقف من المدنيين الفلسطينيين في لبنان، وفي الحديث عن «العروبة الحضارية»، وفي الانحياز إلى موقف مقاوم لإسرائيل.
تبقى نقطة أخرى، وليست أخيرة، في الخطاب هي تلك المتعلقة بـ«ورقة التفاهم» مع «حزب الله». اعتبرها عون على مستوى «ميثاق التيار» و«الخطاب التأسيسي». وتقدم خطوة نحو شرح فهمه لها متلاقياً مع المقاومة، ولو من دون تماهٍ كامل معها. بكلمة أخرى يوضح الخطاب أن «ورقة التفاهم» إرث ثمين يمكن البناء عليه إذا أراد لبنان، فعلاً، التوصّل إلى تسوية مرضية في ما يخص السياسة الدفاعية.
لن يجد خصوم «التيار» صيداً سهلاً في الخطاب. عليهم أن يتناسوا الاتهامات الجاهزة بالشعبوية، وإثارة الغرائز، والمحورية، والتبعية، والتقلّب... عليهم أن يعترفوا بـ«الخصوصية العونية» في المشهد السياسي اللبناني وأن يتعاطوا مع الكلمة بصفتها فاتحة نقاش يمكنه أن يكون راقياً.
سنجد من يعتبر صفة «خطاب رئاسي» كأنها تهمة خطيرة، فيما الخطير فعلاً هو الدفاع عن الوضع المأزوم الحالي ورفض البحث في المخارج المقترحة، ومنها ما سمّاه عون «إعادة تأسيس سلطة وطنية قائمة على تمثيل صحيح».