نقولا ناصيف
بعد مشروع التشكيلات الديبلوماسية التي أقرّها مجلس الوزراء في جلسة الخميس الفائت، يشق مشروع التشكيلات القضائية الطريق أمام أزمة مفتوحة، في ضوء ما تأكد من أن الرئيس إميل لحود لن يوقّعه. وإذ يلتزم لحود الصمت، يتصل ترّيثه بمراقبته ردود الفعل على مشروع التشكيلات، وعلى ما يجده إخلالاً بالتوزيع المذهبي فيه، أكثر مما ينطوي على احتمال الرضوخ للمشروع. وعلى غرار ما رافق تعيين مجلس القضاء الأعلى بعد تجميد لأشهر حتى قال وزير العدل شارل رزق إن مرجعاً حكومياً لم يسمّه ــ وكان يقصد الرئيس فؤاد السنيورة ــ تدخّل الى أن سوّي الاتفاق، فإن التشكيلات القضائية مرشحة لتجميد مماثل.
وتعكس أزمة التشكيلات القضائية وجهاً آخر لأزمة قائمة بين الغالبية الحاكمة والمعارضة، وبينها وبين لحود، ولم تعد تقتصر على ملفات السياسة الخارجية والقرار 1701 والمحكمة الدولية وحكومة الاتحاد الوطني، بل انتقلت إلى داخل الحكم. وبينما أضحت حدود المناورة المتاحة أمام رئيس الجمهورية لتمكينه من الضغط على خصومه محدودة، ومقيّدة بالصلاحيات الدستورية التي يملكها ــ وهو ما أظهره موقفه من التشكيلات الديبلوماسية (وقد أُقرّت بعدما أُخضِعت لتسوية مسبقة مع الرئيس فؤاد السنيورة) ثم من التشكيلات القضائية ــ فواقع الأمر أن بضعة ملفات فُتِحت دفعة واحدة:
أولها، القلق المتنامي لدى فريق الغالبية من تزايد أعمال الشغب وتنقّلها داخل بيروت، في إشارة مبكرة إلى وجود مخاوف من تعريض العاصمة لفوضى. ومع أن المسؤولين الأمنيين يتفادون توجيه اتهام إلى جهة ما، ويبدون في الوقت نفسه مربكين حيال اتساع دائرة المستفيدين من الشغب الأمني، الأمر الذي يعقّد توصلهم إلى كشف الجهة الضالعة في تنفيذ التفجيرات الأخيرة، فإنهم يتخبّطون أيضاً في حيرة مبعثها عدد وافر من المعلومات تعزّز شكوكهم التي تقارب اليقين في ضلوع دمشق بهذه التفجيرات، ولكن من غير أن يملكوا أدلة قاطعة على ذلك، ومن غير أن يخفوا وجود أطراف ثالثين قد يكونون نفّذوا هذه التفجيرات وتتلاقى مصالحهم مع سوريا. استناداً إلى هذه المعلومات يرى فريق الغالبية ترابطاً وثيقاً بين إحداث فوضى في بيروت وتعطيل المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، على غرار الترابط بين هذه والمطالبة بتأليف حكومة اتحاد وطني.
أما المعلومات التي يتحدّث عنها المسؤولون الأمنيون، فتدرج التفجيرات الأخيرة في نطاق ترجمة تهديدات سورية بإحداث فوضى في بيروت، ووصلت هذه التهديدات تواتراً إلى أكثر من جهة أمنية وسياسية في فريق الغالبية. وتقول المعلومات أيضاً إن بث الفوضى لن يتعدّى تحقيقه 70 يوماً، أي إن الموعد معه في مطلع السنة الجديدة. والبعض الآخر من المعلومات نسب إلى مسؤول سوري بارز قوله لسياسيين لبنانيين حلفاء لدمشق إن هذه لن تقبل بتأليف المحكمة الدولية وإن اضطرت لقلب الوضع الداخلي رأساً على عقب.
ثانيها، التحوّلات التي طرأت أخيراً على توازن القوى في مجلس الوزراء، بحيث بات فريق الغالبية يفاخر ــ وإن همساً ــ بأنه لم يعد يمسك بغالبية الثلثين فحسب، بل اجتذب إلى صفوفه وزيراً عيّنه رئيس الجمهورية هو وزير العدل. والواقع أن التشكيلات كسرت، أو كادت، العلاقة بين الرجلين، وحتّمت، أو تكاد، انفصالاً سياسياً بعد أكثر من 55 عاماً من صداقة شخصية بين الرجلين كان يتحدّث عنها رزق.
ومع أن الوزراء الثلاثة المحسوبين على لحود لم يكن ليُخلّوا بنصاب ثلثي مجلس الوزراء، فإن لتخلّيهم عنه، واحداً بعد آخر، مغزى يتعدّى جاذبية الغالبية إلى حسابات واستحقاقات قد لا تكون هذه، بالضرورة، صاحبة قرارها.
أضف أن العلاقة بين لحود وصهره السابق وزير الدفاع إلياس المر ليست على ما يرام، والاتصالات بينهما متقطّعة، وفي أبسط الأحوال عند الضرورة، حتى عندما يتعلّق الأمر بالملف الأعزّ عند رئيس الجمهورية وهو الجيش. وتالياً فإن تحفّظ المر عن التشكيلات القضائية مستقل في ذاته، ولا يندرج حكماً في سياق تفاهم وتنسيق بينه وبين لحود.
ثالثها، تمسّك رئيس الجمهورية بصلاحياته الدستورية الذي مكّنه من المناورة الفاعلة. وهو باسم إخلال التشكيلات القضائية بالتوازن المذهبي، يصرّ على رفض توقيعها من غير أن يكون في وسع الغالبية الحاكمة إرغامه على ذلك. والمطلعون على الحيثيات المتصلة بهذا الإخلال، المطلعون أيضاً على وجهة نظر لحود، يُبرِزون ملاحظات على هذا الإخلال كأمثلة:
ــ ما دام لوزير العدل حق مراجعة مجلس القضاء الأعلى في إعادة النظر في التشكيلات التي أجمع عليها، بعدما وجد الوزير فيها إخلالاً بالتوازن، وهو ما كان حصل أخيراً، فلرئيس الجمهورية المؤتمن على الدستور والحقوق والتوازن الوطني والطائفي حق مماثل في إبداء الرأي ما دام توقيعه الدستوري ملزماً لصدور المراسيم ونشرها. وفي المقابل ما دام ثمة مَن ينكر عليه هذا الحق ــ وكان هناك كلام ضمني بذلك لرزق أمس ــ فليس في الوارد لدى لحود مهر مشروع التشكيلات بتوقيعه.
ــ يعتقد المطلعون على مشروع التشكيلات أن عرّابيه ثلاثة قضاة كبار هم سعيد ميرزا وسهيل عبد الصمد ورالف رياشي. بيد أن الصيغة التي أقرها مجلس القضاء الأعلى اعتمدت المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وأخلّت في توزيعها بين المذاهب المسيحية. في المراكز الرئيسية أُعطي القضاة الموارنة (وعددهم 150) عدداً موازياً للقضاة الأرثوذكس (وعددهم 38) والقضاة الكاثوليك (وعددهم 34)، الأمر الذي لم يلحظه تعيين القضاة في مجلس القضاء الأعلى، إذ حصل القضاة الموارنة على ثلاثة مقاعد فيه (أنطوان خير وشكري صادر ونعمة لحود) تلائم حصة القضاة المسيحيين الأكبر عدداً. وهو قياس لم يؤخذ به في مشروع التشكيلات التي وازت بين قضاة المذاهب المسيحية.
ـ فَقَدَ القضاة الموارنة مراكز رئيسية شغلوها تقليدياً. فالمراكز الرئيسية في كل من المحافظات الست (الرئيس الأول لمحاكم الاستئناف ورئيس محكمة الجنايات ورئيس محكمة الهيئة الاتهامية والمدعي العام وقاضي التحقيق الأول)، لم يحصل القضاة الموارنة على أي منها في البقاع والنبطية والجنوب. أما في جبل لبنان ففَقَدَ القضاة الموارنة مركز قاضي التحقيق الأول واستعيض عنه بقاضي تحقيق أول في الشمال. وفقدوا في جبل لبنان أيضاً مركز المحامي العام ومركز قاضي تحقيق. الأمر نفسه في بيروت حيث أُبعدوا عن مركزي المحامي العام وقاضي التحقيق.
ــ لا يصحّ تبرير إسناد مركز رئيسي للقضاة الموارنة في بيروت استناداً إلى تعيين القاضي إلياس عيد رئيساً لمحكمة الجنايات فيها، وهو منصب كان شغله قبله قاض ماروني هو لبيب زوين.
ــ لم تراعِ التشكيلات القضائية بعد ملاحظة كان قد أبداها وزير العدل مبدأ الخبرة على الأقل، فكان أن نُقِل القاضي إلياس نايفة من مركز قاض منفرد إلى مركز رئيس محكمة الجنايات في البقاع، ونُقِلت القاضية ربيعة عمّاش قدورة إلى مركز قاضية ملحقة بوزارة العدل (وكانت شغلت منصب مدعية عامة تمييزية بالوكالة إبّان تعيين القاضي الأصيل عدنان عضوم وزيراً للعدل).