جان عزيز
بعد خطاب سمير جعجع في حريصا يوم 24 أيلول الماضي، و«برنامج» ميشال عون في 15 تشرين الأول، افتتح مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك مؤتمره أمس، وعلى أجندته عنوان: «هجرة مسيحيي الشرق». هل من رابط بين المشاهد الثلاثة؟
في الشكل، لم يذكر جعجع في خطابه، كلمة «مسيحي»، باستثناء تطرّقه إلى «الشلل الحاصل في الموقع المسيحي الأول في الدولة». لكن جمهوره كان في اللحظة نفسها، كما دوماً، مغموراً برايات الصليب عند أقدام السيدة.
وفي الشكل أيضاً، لم يذكر عون في «برنامجه» مفردة «مسيحي» إطلاقاً، مع أن شعبه كان متحفزاً في الشوارع التي طاف بها وطافت به، ليعلن: «نحن المسيحيين»، جاهراً برسائل بهذا المعنى إلى مرجعيات ومقامات.
وفي الشكل أخيراً، لا يحمل العنوان الرسمي لمؤتمر البطاركة السادس عشر («الكنيسة وأرض الوطن») إشارة إلى موضوعه الممض. لكن مضمونه مكرّس لحالة النزع المسيحي في بلدان انتشار الرسالة الأولى، وقد تحولت بعد ألفي عام على بشارتها، «حارات نصارى» تحترف النزف، أو بقايا أركيولوجية، جوهر ما فيها ذكرى بائدة.
هل هي «تقية» مسيحية مكتسبة أو مستحدثة على طريقة التكتيك البراغماتي؟ أم تحول اقتناعي عميق في زمن العولمة؟ أم مجرد «أونوماتومانيا»، مرض الخوف من بعض الكلمات، في شرق متخصص في وأد الكلمة وبعث الخوف؟
الدافع الى هذه التساؤلات يصير مبرراً أكثر عند كشف الآتي:
رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع، يبدو منذ 14 شهراً خارج أسر اليرزة، كعابر في صحراء الطروحات الكبرى. لم يعلن برنامجاً لحزبه. لم يذكر وثيقته التأسيسية القديمة، ولم يطرح أخرى. وفي خضم تطورات الأشهر الماضية، بدا متنكباً لاستكمال معركة السيادة، مؤجّلا سواها, ومناوئاً لمن تخطى أولويتها، في الداخلين المسيحي واللبناني.
غير أن بعض المراقبين يعتبر موقف جعجع هذا من باب الاستثمار السياسي الخاص: لقد اختار عون خصماً مسيحياً لتصليب القاعدة القواتية في غياب طروحاتها الشاملة. واختار «حزب الله» خصماً لبنانياً للقطف مسيحياً , بعد نكسة الانتخابات النيابية الأخيرة. لكن الذين يعرفون جعجع في عمق بنيانه الفكري، يؤكدون أنه بمعزل عن هوامش السيرة والتصرف الشخصي والسلوك الديموقراطي الداخلي وشفافية العمل الحزبي أو الفريقي، يظل هذا الرجل «مسيحياً أولا». حتى أن هؤلاء ينقلون عنه أنه في اجتماع عمل مع «هيئة الإعداد الفكري» قبل أسابيع، ورداً على سؤاله من قبل «مثقّفي» القوات الجديدة, عن الموقف المطلوب اتخاذه حيال طرح الفدرالية، أجاب جعجع: تصرفوا وثقّفوا بوحي من كل مندرجاتها، لكن لا تلفظوا مفردتها.
هكذا، أياً تكن مقتضيات «الحلف الاستراتيجي» الذي يستدعي كل مرة نزول جعجع من الأرز الى قريطم، وأياً كانت أولويات المرحلة السياسية الراهنة، خطابياً وتسويقياً، يؤكد العارفون أن «القضية المسيحية» في لبنان ثابتة في بنيان جعجع الفكري لا تتزحزح.
أما ميشال عون من جهته فلا يبدو بعيداً عن هذه الجانبية. يوم عودته في 7 أيار 2005، وقف في وسط بيروت مذكّراً بأحد شعاراته: «إذا تحدثت طائفياً فانبذوني». فهو طيلة 15 عاماً من المنفى رفض بلورة أي طرح سياسي مفصّل لتياره. حتى ان القريبين منه كانوا يعترفون بأن بين مكوّنات التيار آراء سياسية متباينة ومشاريع وطنية متمايزة، جامعها المشترك معركة السيادة في حينه. وأنه بعد جلاء السوري سيكون «التيار» أمام تحدي البحث عن مشروع واحد للبنان. وقد يكون الأمر ممكناً بثمن عودة بعض المكوّنات الى مشاريعها السابقة، وقد لا يكون كذلك.
غير أن الذين يعرفون عون حق المعرفة، منذ حامل لقب «رعد» في المعارك ضد الفلسطينيين، الى «جبرايل» رفيق بشير الجميل، مروراً بخلوة سيدة البير، يدركون أيضاً أن قضية الحضور المسيحي اللبناني والمشرقي، ثابتة أعمق في تطلّعه النضالي.حتى ان بعض المراقبين لا يقرأ تفاهمه مع «حزب الله» إلاّ من هذه الزاوية بالذات. ويشرح هؤلاء كيف أن عون بعدما نجح في وضع نفسه وشعبه ووطنه على التقاطع الأميركي الإيجابي بين العامين 2001 و 2004، والذي أدى الى إخراج سوريا من لبنان، دأب طيلة 7 أشهر, من أيار 2005 وحتى نهاية ذاك العام, على سبر اتجاهات هذا التقاطع نفسه، حيال الموقع المسيحي في النظام اللبناني المستقبلي. ويرجح العارفون أن يكون عون حذر واشنطن من خطر قانون انتخابات العام ألفين على التمثيل المسيحي من دون جدوى. ومن مغبّة قيام حكومة استقلالية تأسيسية أولى بعد الجلاء، من دون أكثرية مسيحية، فلم تعبأ. ومن خطورة الاندفاع بنهج الخلل الاستئثاري نفسه نحو رئاسة الجمهورية، فلم تهتم. عندها، ربما, ولدت عند عون فكرة «التفاهم» مع «حزب الله», وسيلة لوقف الانهيار المسيحي المبارك دولياً. وهي فكرة بدا أنها تطورت لاحقاً ونضجت، بعدما ولدت في حيثياتها «أفكار» مسيحية أخرى، ليس أقلّها مصالحة المسيحيين مع بيئة, أهم ما فيها أنها تؤكد تعددية الوطن، ولا تلغيها بالتزوير والمخاتلة وربطة العنق.
وتبقى الكنيسة. الكنيسة نفسها التي تحدثت في مجمعها الماروني عن «الدولة المدنية» بلبس، أغلقت أبوابها أمس لتحكي عن الموت البطيء لمسيحيي الشرق، ببعض تكتم والأكثر من الجدية.
هل من خلاصة للمشاهد الثلاثة؟ من قال إن الحقيقة المجردة لا تنقذ؟ ولماذا لا يكون بعض الحقيقة كلاماً صريحاً من البطاركة وعون وجعجع، عن أن مصير المسيحية قد يكون مطروحاً , الآن وهنا، وأن بعض الخلاف بين المعنيين، تباين وسائل لغاية واحدة.
عند مكيافيل الغاية تبرّر الوسيلة، أما عند مسيحيي لبنان فالوسيلة تدمر الغاية... أحياناً.