جوزف سماحة
إذا افترضنا أن ثمة دولاً راغبة في امتلاك السلاح النووي وأنها تراقب الردود على التجربة الكورية الشمالية، فهل تتشجع أم ترتدع؟ ويجوز لنا الافتراض أن هذه الدول نفسها سبق لها أن راقبت ما حصل مع الهند وباكستان، فما هو الاستنتاج الذي تخلص إليه؟ ونذهب أبعد فنقول إن الدول المشار إليها مطّلعة على التعاطي الدولي مع الترسانة النووية الإسرائيلية فما الذي تخشاه؟
في حالة إسرائيل لا خشية من شيء. على العكس. في حالة باكستان لا خشية من عقوبات مؤقتة لأن الوضع الراهن هو تحالف استراتيجي أميركي ــ باكستاني ضد «القاعدة». في حالة الهند، وبعد مرحلة توتر دامت شهوراً، ها هي واشنطن تعقد اتفاقات نووية مع الجبار الآسيوي. في حالة كوريا الشمالية فإنها عوقبت على امتلاك السلاح النووي بحرمانها من... الدبابات!
العقوبات على كوريا هي أقسى بالطبع ولكنها ليست من النوع الرادع فعلاً علماً بأنها، أي كوريا، مثل سائر البلدان المسماة، طوّرت سلاحها الذري خارج أطر الشرعية الدولية تماماً.
ولكي تكون الصورة واضحة يجب أن نضيف، ربما، أن كوريا الشمالية دولة فقيرة، وشعب جائع، ولا يتجاوز عدد سكانها 23 مليوناً، وهي في أمسّ الحاجة إلى جيرانها الأغنياء أو الأقوياء جميعاً وعلى رأسهم الصين. يعني ذلك أن ما قامت به لا يمثّل تحدياً استثنائياً لإرادة الدولة العظمى الوحيدة بل للمحيط الإقليمي كله وهو يضم دولاً مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية وروسيا. لقد قفزت بيونغ يانغ نحو «النووي» متجاوزة تهديدات في منتهى الجدية. ومع ذلك يبدو أن لا أفق سوى تجديد التفاوض. لو قيل لكيم جونغ إيل إن هذه ستكون نتيجة فعلته لما تردد في الإقدام عليها. والدليل أنه لم يتردد فعلاً.
لا أحد يشعر بالأمان مع كوريا الشمالية النووية. ولكن يبقى أننا أمام قرار سياسي ذي مغزى. أمام قرار متجاهل للردع ويشكل تحدياً لمنظومة دولية متكاملة تشكو، بين ما تشكو منه، من أن الدولة الراعية لها، أميركا، هي الأكثر اختراقاً لأركانها.
المشكلة الكورية إضاءة على مشكلة السياسة الخارجية الأميركية (فضلاً عن مشاكل سياسات إقليمية).
يكاد المرء يذهب إلى القول إن التفجير النووي الكوري هو، بمعنى ما، رد على الغزو الأميركي للعراق من خارج الشرعية الدولية، ولأسباب كاذبة، ولانعدام وجود أسلحة دمار شامل في بغداد. إن ما حصل قبل أيام مؤشر على الاضطراب الذي أدخلت واشنطن العالم إليه، والعالم العربي والإسلامي تحديداً.
غلّب جورج بوش النظرية القائلة بأن الاستقرار في الشرق الأوسط هو المشكلة. ووجّه لوماً إلى سياسة أميركية اعتمدته شعاراً لها فقادت إلى اللااستقرار واللاسلام وفوق ذلك إلى تفجيرات 11 أيلول. كان لا بد، والحالة هذه، من استراتيجية جديدة: الهجوم لفرض التغيير.
وكان في الظن أننا في عالم وردي تماماً: احتلال سهل للعراق، بناء سهل لعراق ديموقراطي، تفعيل سهل لـ«الدومينو»، تحرّك سهل غرباً نحو إيران أو شرقاً نحو سوريا، مرور عابر على السعودية ومصر، زيارة سريعة إلى فلسطين لتلقين أبنائها أن الديكتاتورية هي المشكلة لا الاحتلال، إلخ...
لقد تداعى هرم الخرافات. تراجع الحديث عن الديموقراطية نتيجة الحاجة إلى حلفاء في الحرب على التطرف، أعيد إنتاج أوضاع تنتج التطرف، ازداد الإرهاب باعتراف الأجهزة الرسمية الأميركية، أصبح الاستقرار أبعد منالاً... وفوق ذلك كله ازدادت أسلحة الدمار الشامل انتشاراً وصولاً إلى الأقصى منها أي النووي في كوريا، والاستعدادات جارية لافتتاح أزمة مع إيران ستكون، في جانبها العسكري المحتمل، أعنف الأزمات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية.
ترد الولايات المتحدة على التراجع الفعلي في هيبتها، ومكانتها العالمية، بمزيد من العبوس والمغامرة. تشعر باستفزاز شديد لأن ردعها يتآكل نتيجة الفشل المتمادي لسياساتها. وبدل أن تغيّر نفسها تتصرف وكأنها أشد إصراراً على تغيير الآخرين. وبعد أن كان يقال إن الوعي الأميركي تعرّض لـ«أسرلة» بات يقال، بعد الحرب الأخيرة على لبنان، إن العدوانية الإسرائيلية تعرّضت لـ«أمركة» أي بات حظها من النجاح قليلاً.
لا مثال تستطيع الولايات المتحدة تقديمه عن نجاح جدي حققته هذه الموجة من اندفاعتها النيوكولونيالية. ولا إيحاء بأن التفكير متجّه إلى إدخال تعديل على أدوات تنفيذ هذه الاندفاعة أو على تغيير جدي وواعٍ للوجهة.
ثمة استدراك وحيد ربما، أن الاستثناء على القاعدة هو ما حصل في ليبيا. ولكن، حتى هنا، لم تعد الديموقراطية على جدول الأعمال. ثم إن هناك من يزعم أن النجاح في ليبيا فشل لأن الجماهيرية تلحق ضرراً بمعسكرها أكثر من الضرر الذي تلحقه بالمعسكر المقابل.
أكُلّ هذه الضجة من أجل ليبيا؟ إذا كان الأمر كذلك فمبروك.