الهرمل ــ رامي بليبل
حمل المدية بيده، غرزها في زنّاره بالقرب من خاصرته اليسرى، وضع شالاً أسود اللون عاقداً طرفه، ودّع عائلته تاركاً إياها والصدور تغلي حرقة وألماً، تارة على من غُدر وطوراً على الرجل الذي لن يفك عقدة شاله إلا حينما يأخذ بثأر أخيه، فلا الدولة قادرة على رد الحق لصاحبه، ولا هو قادر على السكوت عن حقه، فالتقاليد تقتضي ضرورة الأخذ بالثأر

تقاليد العشائر خاصة جداً في الهرمل وجرودها، ففي تجوالك على مختلف المناطق العربية تجد أن الثأر لا بد منه وأنه لا تكريم لمُصلح ولا مكان للديات والعفو، أما في الهرمل فالتقاليد المقدسة تقتضي الالتزام بما يقرّه المصلحون.
لم تبدأ عادة الأخذ بالثأر والتحاف الجبال في المنطقة صدفة، بل كان لها أسبابها وأهمها غياب الدولة وغض نظرها إبان حكم الرئيس فؤاد شهاب حين قام “المكتب الثاني” (مديرية المخابرات) الذي عمل على تحريض الناس، وكان وقتها الضابط بطرس عبد الساتر هو الحاكم الفعلي في منطقة بعلبك ــ الهرمل، حيث كان يقدم لكل من يأتي إليه رخصة سلاح مقابل إخباريات ينقلها له. وإن حصل وتشابك المخبرون فـ“بطرس” جاهز ليجمع الأطراف وينهي الخلاف ببضع ليرات، وسرعان ما يقومون بواسطتها بشراء “دفعة” جديدة من “الخرطوش”حيث كانت وقتها تجارة السلاح مشتهرة وفي أوج عطائها، إلى أن أصبح الضابط “سامي الشيخة” هو الحاكم، وهو ما زاد الطين بلّة .
يقول أحد أبرز الرجال الذين قادوا عمليات صلح في المنطقة الشيخ أبو مصباح ناصر الدين “تختلف بحسب التقاليد طريقة فض النزاعات بين المتخاصمين، وكل إشكال له حلّه باستثناء “العرض” فهو أصعب شيء والعرض يقابله الدم، أما الخلاف على المرور والحدود و“المجاكرة بالحديث” وكلها في أغلب الأحيان تؤدي إلى قتل أحدهم الآخر، فإن حلها بسيط.
ويسرد أبو مصباح قصّة حصلت فيقول: “حدث أن اختلف “حواصيد” من آل “عبيد” مع راع من “ربعنا” بسبب إدخاله ماشيته إلى حقل آل “عبيد” وتركها تأكل ثمارهم المحصودة، وكانت نتيجة خلاف ومشاجرة أدت إلى قتيل وعدد من الجرحى من آل “عبيد” وخمسة قتلى من آل ناصر الدين، وهو ما اضطر آل “عبيد” إلى ترك الضيعة والرحيل في الوقت الذي دأب فيه أهل المقتولين الخمسة يتربصون بقاتلي أبنائهم مدة طويلة، علماً بأن الدولة وقتها لم تتدخل في الأمر إطلاقاً. وبعد مضي وقت ليس بقليل أدلى أحدهم برأيه على الفارين، يقضي بأن يبيتوا ليلة على قبور القتلى الخمسة ــ وهذا له دلالات كبيرة في عرف “العشائر” ــ وهكذا حصل، ما دفع بآل ناصر الدين إلى استضافة آل “عبيد” عندهم وأعطوهم الأمان، ومنذ الحادثة وحتى الآن لم يتعرض أحد للآخر. ويقول أبو مصباح: “هذه التقاليد ولغة الصفح غير موجودة في أي مكان”.
المصلحون هم عادة من عائلات معروفة غير المتخاصمة فإذا اختلف مثلاً آل ناصر الدين وعلوه فإن المصلحين هم من العشائر الأخرى. وتقتضي التقاليد أن يلتزم المصلحون في بيت صاحب الحق حتى يسلموهم زمام القيام بالمصالحة وقد تستمر العملية أشهراً طويلة. واللافت أن المصلحين كانوا لا يأكلون أو يشربون عند أهل الضحية طوال الفترة التي يقضونها لديهم حتى يتم أمر التسليم علماً أن الرحلة كانت تتم على الخيل ومن مكان إلى مكان بعيد.
ومن التقاليد المتبعة أن يأخذ المصلحون القاتل تحت عباءة كبيرِ المصلحين إلى بيت أهل القتيل ويقدَّم إليهم، وهو ما يجبر أهل القتيل على العفو عنه كرمى “للحاضرين”، وإذا كان المعتدى عليه جريحاً فإن على الجارح أن يقدم بنــــــدقيته إلى أهل الجريح الذين بدورهم يعيدونها إلى صاحبها .
لم تعد أغلب المصالحات اليوم تتم بمساعي مصلحين محايدين كما في السابق فقد تسلم زمام المبادرة اليوم الأحزاب والحركات السياسية وباتت المصالح السياسية، ولا سيما الانتخابية تلعب فيها دوراً فاعلاً، وهذا الأمر يستغرق وقتاً طويلاً، وهو ما عقّد وصعّب عملية الصلح وبات الثأر لأخذ الحق باليد خياراً مفروضاً .
وللمصادفة أنه أثناء كتابة هذا التحقيق، حصلت حادثة ثأر يؤكد المطلعون أنها نتيجة إهمال واضح. فقد أقدم أمس شاب من عائلة “أبو جبل” على قتل شاب من آل ناصر الدين لا يتجاوز الثلاثين سنة من العمر، أخذاً بالثأر لمقتل أحد أقربائه منذ سنتين في حادثة حصلت على الحدود اللبنانية ــ السورية. القتيل ليس له علاقة بالقضية سوى أنه قريب القاتل الأول والمشكلة أن في ملف هذه القضية دعاوى في سوريا ولبنان والقتيل الجديد أخ لأكثر من عشرين رجلاً يثأرون لكرامتهم، علماً بأن من المتوقع أن لا ينفع فيها مصلحون ولا ديات، ما دامت تجربة دفع الدية في المرة الأولى باءت بالفشل بسبب ضياع الأمر بين من القاتل ومن سيدفع .
ورغم أن هذه الحادثة هي جديدة لكن ما نؤكد عليه أن الوعي لمخاطر الأمر وعدم شرعيته والامتثال للآية الكريمة “ولا تزر وازرة وزر أخرى” أصبح منتشراً، وباتت العشائر والعائلات تتحلى بضبط النفس وسعة الأفق وحكمة القرار، حتى بتنا نشعر بأن عادة الثأر اندثرت إلى غير رجعة لولا حادثة من هنا وأخرى من هناك تحصل مع أناس غير مثقفين وليسوا اجتماعيين، ولا سيما أن الشرارة الأولى فيها قد حدثت منذ زمن بعيد، وهنا لا بد من الإشارة إلى مساهمة الدولة في تعميق عادة الأخذ بالثأر حيث يؤكد أبو مصباح “أن الدولة منذ القدم تأتي بالمجرم إلى نظاراتها اليوم وتتركه غداً فيضطر حينها صاحب الحق إلى أخذ حقه بيده من غريمه وهكذا”.
وعلى كل الأحوال فإن عادة الثأر وإن كان صيتها ذائعاً في بعلبك ــ الهرمل ولكن ما نود تأكيده أنها أصبحت نادرة جداً، وخاصة في العقدين الأخيرين حيث انتشر الوعي الديني في أوساط الجيل الجديد الذي بات يفضّل الدخول إلى الجامعات بدل النظارات، ما خلا بعض استثناءات يمكن أن تتلاشى في ظل سياسة إنمائية عادلة يشعر معها المواطن بقيمة مستقبل أولاده، أو بالأحرى يتذوق معها أبناء منطقة بعلبك ــ الهرمل حلاوة الحياة التي افتقدوها منذ زمن بعيد نتيجة سياسات الإفقار والتجهيل والإهمال والتهميش التي مورست وتمارس عليهم منذ السلطنة العثمانية حتى اليوم. وإذا كان أهل هذه المنطقة الأبية يحفظون قول الإمام علي: “ما دخل الفقر بلداً إلا وقال له الكفر خذني معك”. فهم يقرون بأنّ الفقر لم يدخل إلى بلادهم من تلقاء نفسه، بل هناك من يدخله عمداً عن سابق إصرار وترصد. أما بالنسبة للرجل حامل المدية فإنه كما علمنا ذهب إلى منزل غريمه وعرض عليه صلحاً عزيزاً يقي به أهلـــه ناراً وقودها الأحباء والأبناء.