جوزف سماحة
المقابلة التي نشرتها «الأخبار» أمس مع الدكتور سمير جعجع تستحق أن تقرأ مرتين وثلاثاً (هذه ليست دعاية لـ«الأخبار» ولا لجعجع). واضحة. صريحة. متماسكة. يتحدث قائد «القوات اللبنانية» كحزبي متمرّس يريد أن يقنع، وأن يستعرض حججه، وأن يدافع عن مواقفه وسياسته. لا يكتفي، مثل بعض حلفائه، بإرسال برقيات، أو بإطلاق شعارات تعبوية. كلا، يقدم تلخيصاً برنامجياً لرؤية حزبه، ولتقديراته، ولمهماته في المدى المنظور.
إذا كان يجوز تقديم اقتراح لقارئ جعجع فالاقتراح هو الإقدام على هذه القراءة بعد الاطلاع على الأخبار المنقولة بالأمس واليوم عن... العراق. وبشكل أكثر تحديداً عما يدور في الولايات المتحدة من سجال حول احتلال العراق، وواقعه، والمصائر المفتوحة أمامه.
تُجمع استفتاءات الرأي، منذ فترة، على أن أكثرية شعبية أميركية واضحة باتت معترضة على إدارة جورج بوش للأزمة العراقية وباتت في موقع الاعتقاد بأن الحرب، أساساً، كانت خاطئة.
وبما أن هذه الاستفتاءات المتتالية تسبق، بأيام، الانتخابات النصفية فإنها تنعكس تقديرات بأن الحزب الجمهوري قد يتعرّض لنكسة في 7 تشرين الثاني. فهذه الانتخابات آخذة في التحوّل إلى «استفتاء عن العراق» وثمة ما يشبه الإجماع على أن حزب الرئيس سيدفع ثمناً سياسياً. التباين قائم في شأن حجم الثمن ولكن ما هو مؤكد أن الحرب الأميركية على العراق باتت رصيداً سلبياً بالنسبة إلى مؤيديها وأن الميل متعاظم إلى معاقبتهم. واللافت في هذا المجال أن مرشحين جمهوريين يتعمّدون تمييز أنفسهم عن سياسة الإدارة في هذا المجال أو يتناسون العراق تماماً على خلاف ما حصل في انتخابات سابقة.
التسرّب الجمهوري واضح. ومع أن ديموقراطيين كثيرين أيّدوا الحرب، ومع أنهم لا يدعون إلى سياسة خروج واضحة، فإنهم يلاقون تأييداً متزايداً لمجرد تعبيرهم عن تبرّم من التورّط الأميركي.
يبقى أن الطاغي على «الخبر العراقي» في الولايات المتحدة هو ما تنقله وسائل الإعلام عن التوصيات المرتقبة للجنة جيمس بيكر ــ لي هاملتون. اللجنة برئاسة الجمهوري جداً بيكر. بدأت العمل منذ أواسط آذار. استجوبت حوالى 200 شخصية (بينهم إيرانيون وسوريون). ومع أن اللجنة قررت تأجيل الإعلان عن التوصيات إلى ما بعد الانتخابات فلقد بات واضحاً أنها تتجه إلى الدعوة إلى حل وسط لا يكون «المثابرة» التي يدعو إليها بوش، ولا يكون «المغادرة» التي يدعو إليها بعض خصومه. والحل المشار إليه، كما ينشر، هو واحد من اثنين. إما البقاء في بغداد حصراً وإشراك الإيرانيين والسوريين في التهدئة، وإما الانسحاب إلى قواعد عسكرية قريبة والعودة إلى سياسة الاحتواء التي لا تستبعد استخدام الجيش. يجب أن نذكر هنا أن التوصيات غير ملزمة سياسياً ولكن وزنها المعنوي سيكون قوياً لأن اللجنة متشكلة مناصفة بين الحزبين، ولأن بيكر، تحديداً، هو رئيسها. فالرجل يرمز إلى تيار نافذ في الحزب الجمهوري ويرتبط بعلاقة خاصة مع بوش الأب وبوش الابن وكان له دور بارز في تثبيت نتائج فلوريدا التي أثمرت قراراً قضائياً بتعيين جورج بوش الابن رئيساً في ولايته الأولى. وقد نقلت «لوموند» الفرنسية رأياً يقول «إن بيكر يتعمّد تسريب التوصيات من أجل قطع الطريق على اقتراع أميركي كثيف للحزب الديموقراطي. ويعني ذلك أنه يلمّح لمواطنيه إلى أن بوش نفسه هو الأقدر على تغيير السياسة الحالية في العراق، لذلك لا ضرورة لإنزال هزيمة ماحقة به بعد أيام.
وفي الواقع يلاحظ مراقبون للحياة السياسية الأميركية أن الرئيس يدخل تعديلات على خطابه العراقي، ولقد قاده ذلك، لأول مرة، إلى عدم رفض مقارنة بين ما يجري في العراق حالياً وبين هجوم التيت الفيتنامي عام 68. وللتذكير فإن الهجوم المذكور هو ما يؤرّخ به لبلورة قرار الانسحاب!
الأنباء البريطانية عن أحوال التدخل في العراق لا تخالف هذا الانطباع. صحيح أن بلير يتحدث عن «إنجاز المهمة» من دون أن يوضح ماهيتها، ولكن الأصح أن الغالبية البريطانية الساحقة المعترضة على الحرب تجد مناصرين لها في رئاسة الأركان وفي قيادة القوات البريطانية في... أفغانستان.
تلك كانت أخبار العراق أمس، أي في اليوم الذي نُشر فيه حديث الدكتور سمير جعجع.
يمكن أن نهمس في أذنه، والحالة هذه، بملاحظات مستندة إلى أقواله وإلى الوقائع العراقية.
ثمة عراقيون كثر اعتقدوا فعلاً بوجود تقاطع في المصالح بينهم وبين الإدارة الأميركية وحلفائها. كان الحصاد خراباً. أكثر من ذلك، كان خراباً مفتوحاً على المزيد من الخراب.
لا يجوز لقوى محلية أن تعيش في وهم قدرتها على التحكّم باتجاهات الأحداث. لا أحد ينكر الأدوار المحلية ولكن الحدود واضحة أو هكذا يفترض أن تكون. لقد كان نوري المالكي محتاجاً، قبل أيام، إلى اتصال هاتفي من ربع ساعة مع بوش ليتأكد من أنه باقٍ في منصبه!
خوف المالكي يكاد يكون مبرراً. فالاستعداد الأميركي للتخلّي عنه يمكنه أن يكون وارداً وذلك بالرغم من حجم الرهانات الأميركية في العراق، وبالرغم من الاحتمالات المرعبة لذلك.
ثم إن من الضروري لفت انتباه جعجع إلى الفرق الفلكي (لا وصف آخر) بين الأهداف الأميركية المعلنة للحرب على العراق والمآل الذي وصلت إليه هذه الحرب. ونزعم أن الولايات المتحدة يمكنها التعايش مع مصير لبناني بائس جداً وذلك بغض النظر عما يعنيه ذلك من تناقض مع ادعاءاتها الحالية عن الحرص على لبنان وسيادته واستقلاله. نقول أكثر من ذلك. إن للعراق حيزاً مستقلاً في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط هو بالتأكيد أكبر بما لا يقاس من الحيّز اللبناني المستقل في الاستراتيجية نفسها. ويفترض بـ«الحكيم» أن يعرف أن واشنطن أوكلت إدارة لبنان إلى النظام السوري لسنوات ثم عادت فأوكلت إلى إسرائيل الأمر شهراً ولم تكن معنيّة كثيراً في المرتين، بتوفير إجماعات لبنانية.
لا يجوز لقائد سياسي أن يتجاهل التداخل بين أزمات المنطقة، ولا الحسابات الدقيقة لموازين القوى، ولا ديناميات الصراع واتجاهاته... وفي الظن أن جعجع يتجاهل ذلك أو، على الأقل، يتظاهر بالتجاهل.
إن القراءة «العراقية» لحديث جعجع تلقي ضوءاً عليه يحتاج إليه. يقود ذلك إلى الاختلاف مع قائد «القوات اللبنانية». إلا أن النقاش يجب أن يبقى مفتوحاً ومستمراً. فربما لم تكن الحسابات الجدية مبنيّة على الحرب الأميركية المتعثّرة في العراق (ولا على الحرب الإسرائيلية المتعثّرة في لبنان) بل على حرب مقبلة لا يمكن الولايات المتحدة إلا أن تخرج منها منتصرة. ولكن، حتى في ظل هذه الفرضية، يستحسن بنا أن نغادر المحلي بعض الشيء لأن المحلي عندنا إقليمي جداً ودولي جداً.