جوزف سماحة
انتهى القادة الأميركيون الميدانيون إلى ملاحظة الأمر الواقع: «خطة بغداد» فاشلة. عشرات آلاف الجنود اقتحموا عشرات آلاف المنازل على امتداد نحو ثلاثة أشهر والنتيجة تصاعد «أعمال العنف»، زيادة عدد الضحايا من المواطنين، قتلى عسكريون يفوق عددهم عدد من سقط في مرحلة سابقة، مواجهات أهلية، حكومة مهتزّة، إلخ... «طهّر، أمسك، ابنِ» كان عنوان الخطة الجديدة. إلا أن البناء ينتظر الإمساك وهذا، بدوره، ينتظر التطهير.
الجديد، هذه المرة، هو أن الفشل معلن ومعترف به. لم يستطع الاحتلال إخفاءه بما يسمح للرئيس جورج بوش بأن يردد معزوفته الشهيرة عن «المثابرة» وإكمال الطريق. والجديد الطارئ، أيضاً، هو أن الاعتراف بالتعثّر يأتي عشيّة انتخابات نصفية صعبة للحزب الجمهوري و«حزب الحرب» بصورة عامة، وفي وقت تعيش فيه واشنطن نقاشاً صاخباً يغلب فيه انتقاد الإدارة على ما سواه.
ليس الفشل مفاجأة. العكس كان سيكون كذلك. إنه فشل تكتيكي يعزز الفشل الاستراتيجي ويحيل إلى الأصل: حرب عدوانية بذرائع كاذبة، شعارات طموحة لا تملك أدوات تنفيذ، إدارة سيئة لما بعد انتهاء القتال، جهل كامل بالعراق، رهان أعمى على القوة المتغطرسة، ارتجال لا سابق له، ركام من الأكاذيب يحاول تغطية التصدّع في البنيان العراقي، عجز عن مواجهة التمرّد، تعزيز للأنوية الإرهابية، استفزاز للجيران، استعلاء على المجتمع الدولي، إلخ...
إن العناوين المشار إليها آنفاً تشكل موضوعات لما بات يمكن وصفه بأنه رياضة وطنية أميركية: إصدار كتاب يفكك سياسة الإدارة في العراق قبل الحرب وبعدها. لقد بات في الإمكان الحديث عن مكتبة كاملة في هذا المجال.
«حال الإنكار» لبوب وودورد كاد يغطي، إعلامياً، على هذا التضخم في مجال النشر. ولقد نال نصيبه الوافر من التغطية الإعلامية لمضمونه ولا سيما أنه دخل سريعاً في حلبة التنافس الحزبي وقدّم ذخيرة ثمينة لكل من يريد أن يطعن في الرئيس وأركان إدارته. إلا أنه قد لا يكون الأهم بين الكتب.
الناقد المسرحي السابق فرانك ريتش يتلذّذ في الاستعراض الدقيق لسيل الأكاذيب أو أنصاف الحقائق. يدفع هاجسه للبرهنة إلى الحد الأقصى عبر نشر جداول، على صفحات، لما كان يزعمه أركان الإدارة ولما كان معروفاً في ذلك الوقت. وإذا كان يركّز على السياسات الخارجية فإنه يستعرض، أيضاً، حجم التزوير في القضايا الداخلية.
مايكل إيزيكوف وديفيد كورن يرويان، من الداخل، قصة «بيع الحرب» وتسويقها. يقول الأول إن هدف الكتاب طرح السؤال عن صدقيّة الإدارة، وعن ازدواجية الخطاب بين الموقف السياسي والمعطيات التي تقدمها الأجهزة، وعن «الاستكبار» الذي يميّز سلوك بوش والمحيطين به.
«منطق الانسحاب» هو عنوان الكتاب الذي وضعه أنطوني أرنوف مع المؤرخ هوارد زين. الحرب كارثة وسترتد على الولايات المتحدة. الحل بسيط: الانسحاب الفوري.
الانسحاب خطر، يقول بعض المدافعين عن بوش. كلا يجيب جورج ماكغفرن ووليام بولك. الأول معروف بمعارضته حرب فيتنام ودعوته، كمرشح ديموقراطي مطلع السبعينيات، إلى الانسحاب. والثاني أكاديمي. يضع الاثنان خطة تفصيلية وعملية للانسحاب توفّر الكرامة للولايات المتحدة وتظهر قدراً من التعاطف مع الشعب العراقي «الذي حوّلنا حياته إلى كابوس».
يذهب بيتر غالبرايت مذهباً آخر. يرى أنه يجب وضع نهاية لهذه الحرب عبر وضع نهاية للعراق كبلد موحّد. وهو بذلك يعبّر عن ميل متصاعد في أوساط قريبة من الحزب الديموقراطي. ميل يسلّم بالفشل ولكنه يدعو إلى مساعدة العراقيين عبر تجزئة البلد بما يوحي أن على الضحية أن تتحمّل قسطها، هي الأخرى، من أخطاء جلادها.
«كوبرا ــ 2» كتاب يعج بالتفاصيل عن كيفية الإعداد للحرب وكيفية قيادتها وكيفية التصرف الأميركي بعدها. يوضح أن القرار اتخذ بعد 11 أيلول، وأن التحضيرات للعدوان بدأت مبكرة، وأن المناورات السياسية في مجلس الأمن كانت لذرّ الرماد في العيون. لقد تشارك عسكريون مع سياسيين في التعمية، وتجاهل الجميع التفكير الجدي في اليوم التالي مما أفقدهم المبادرة. الكاتبان مايكل غوردون (مراسل عسكري) وبرنارد تراينور (ضابط متقاعد) يحددان المسؤولية: العجرفة، السذاجة، انعدام الكفاءة... أي إنهما يذهبان نحو إدانات قد لا تساعد كثيراً في وضع العدوان في إطار استراتيجي.
«عقيدة الواحد في المئة» عنوان آخر. «فياسكو» عنوان. إلا أن الكتاب الأكثر إثارة قد يكون «الحياة الأمبراطورية في مدينة الزمرّد» للمراسل السابق في بغداد (واشنطن بوست) راجيف شاندرا سيكاران. إنه استعراض لما بعد الحرب انطلاقاً من «المنطقة الخضراء». «الحلم» في الداخل، الكابوس في الخارج. الكتاب المرجع، حتى الآن، لإعادة إعمار العراق.
البطالة عالية. الرد: خفض الضرائب والخصخصة وقانون الملكية الفكرية. العراق بلد مسلم. السلوك: استفزاز يومي للمشاعر وعزل العاملين في «المنطقة الخضراء» داخل فقاعة مقطوعة الصلة بالبلد وأهله. عمال مستوردون تصادر جوازات سفرهم. والٍ على العراق يمسك الصلاحيات كلها. مسؤول عن إعادة تدريب الشرطة يمضي يومه نائماً ثم يغادر إلى نيويورك، حيث هو «بطل وطني» ليقع في شباك افتضاح اختلاساته. مسؤول عن أمن بول بريمر متخرّج من فرق الموت في السلفادور (اقترحه بول وولفويتز). مسؤول عن اختيار الموظفين المنتدبين للعمل في العراق يسأل المرشحين عن ميولهم السياسية وموقفهم من حكم الإعدام. شاب في الرابعة والعشرين من العمر يكلّف افتتاح البورصة. آخر لا خبرة لديه على الإطلاق يتولّى تنظيم القطاع الصحي... ومئات الأمثلة الأخرى عن إعادة إعمار أوصلت إلى الفشل الماثل أمامنا.
سقوط «خطة بغداد» تجلٍّ أخير لأزمة متمادية ومتفاقمة. وهذه الأزمة لا تضيء على السياسة الأميركية في العراق فقط. ربما كان هناك، اليوم، من يستعدّ لإصدار كتاب جديد عن تعثّر السياسة الأميركية في لبنان، وادعاءات التلاقي بين المصالح الوطنية اللبنانية والمصالح الأميركية. ربما كان الحائل دون ذلك أن النتائج الكارثية لهذه السياسة لم تظهر ملامحها الكاملة حتى الآن.