نقولا ناصيف
منذ الجولة الأخيرة من مؤتمر الحوار الوطني في 30 حزيران الفائت، وقد حُدّد 25 تموز موعداً لجولة تالية حالت دونها الحرب الإسرائيلية، بات هذا الحوار في مخاض صعب، لم ينجح إلا الجانب اللبناني فيه، وهو تمكّن الأقطاب من اتخاذ قرارات مهمة ـــــــ بعضها مصيري وتاريخي حتى ـــــــ من دون أن يكونوا هم المعنيين بوضعها موضع التنفيذ. وهي حال الملفات ذات الصلة المباشرة بسوريا (العلاقات الديبلوماسية وترسيم الحدود البرية وفي مزارع شبعا وتحديد لبنانية هذه المزارع والسلاح الفلسطيني). أما الملفات اللبنانية، ما خلا المحكمة ذات الطابع الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتي يسأل عنها الأقطاب اللبنانيون، فقد أخفقوا في الاتفاق على حلول لها، كالتغيير الرئاسي وسلاح «حزب الله».
كان ذلك كله تحت سقف ضمانات كفلت إنجاح الجولات المتتالية من الحوار: حضور الأقطاب كافة، اتخاذ القرارات بالإجماع، دخول كهف المحظور السوري بلا تردّد، جدول أعمال مفتوح على كل هواجس الغالبية الحاكمة بدءاً بالقرار 1559 وتحديداً التغيير الرئاسي وانتهاءً بسلاح «حزب الله»، تأييد محلي وعربي ودولي لحظه أيضاً قرار مجلس الأمن 1680. كانت تلك طاولة الحوار.
أما طاولة التشاور التي دعا اليها الرئيس نبيه بري أمس، فشأن آخر.
لأنها أولاً، وخلافاً لطاولة الحوار الوطني، تتبنى جدول أعمال المعارضة ببنديه اللذين ترفض الغالبية الخوض فيهما توقيتاً ومضموناً. والأصحّ أن الغالبية لا تستعجل حكومة وحدة وطنية لا تريدها في الأساس خشية أن تفقد من خلالها غالبية الثلثين التي لها في الحكومة الحالية، ولا تستعجل كذلك بتّ قانون انتخاب جديد قبل أن تستكمل سيطرتها على كل مفاصل السلطة والحكم في لبنان، وخصوصاً رئاسة الجمهورية. بل الأصح أيضاً أن قوى 14 آذار لن تجازف من الآن في تعريض الأكثرية التي تمثّل للانهيار عبر قبولها بدوائر انتخابية تكون ثمرة تسوية سياسية.
ولأن طاولة التشاور، ثانياً، تُخرج بري عن حياده من غير أن يكون في وسع أي فريق إبدال دوره بمرجعية أخرى موثوق بها في إدارة حوار أو تشاور كهذين. فالرجل الذي اضطلع في جولات الحوار الوطني بدور الحَكَم وصمام الأمان الذي يحول دون انقطاع الاتصال بين الأقطاب سعياً لتوصّلهم الى قواسم مشتركة، قاربت الغالبية دوره هذا على أنه يوشك على الانفصال عن الفريق الشيعي، أو أنه يُعدّ نفسه للانتقال الى فريق الغالبية. وأكدت هذا الاعتقاد لدى بعض أفرقاء الغالبية بضعة مواقف بيّن فيها بري تميّزاً محدوداً في الموقف عن «حزب الله»، دون أن يكون أقل تصلّباً من حليفه، وخصوصاً في مسألتي سلاح المقاومة والعلاقات الإيجابية مع سوريا.
في الحصيلة حاولت الغالبية إشعاره بأنه في حاجة اليها، من غير أن تقدّم للطرف الآخر تنازلات تتطلّبها مشاركة متكافئة في الحكم. إلا أن الأقطاب جميعاً يعرفون أن أحداً سواه ليس في وسعه توجيه الدعوة الى الحوار، وأن أحداً من الأقطاب هؤلاء لن يكون في وسعه كذلك حِمل وزر تعطيل هذه المحاولة والتسبّب بنقل السجال الى الشارع. ويعرفون أيضاً وأيضاً أن رئيس المجلس سيكون في الأشهر القليلة المقبلة صاحب الدور المحوري في إدارة انتخابات رئاسة الجمهورية، وصاحب الاختصاص الحصري في دعوة النواب الى جلسة الانتخاب، ورئيس الكتلة المؤهّلة لإكمال نصاب الثلثين لهذه الجلسة. وهو أولاً وأخيراً صاحب الرأي المرجّح في تكريس النصاب الموصوف لافتتاح الجلسة.
مع ذلك كله ابتكر المخرج المناسب لتمييز طاولة التشاور عن طاولة الحوار، وإخراج الاستحقاق الرئاسي من السجال الحالي وقلب الأولويات ودفع تأليف حكومة وحدة وطنية الى واجهة الحدث.
والواقع أن ما أقرّه مؤتمر الحوار الوطني وكرّسه إجماع الأقطاب عليه كان جدول أعمال الغالبية الحاكمة: السلاح الفلسطيني، المحكمة الدولية، ترسيم الحدود البرية مع سوريا، لبنانية مزارع شبعا، العلاقات الديبلوماسية مع سوريا. ثم جاءت الحرب الإسرائيلية الأخيرة لتُشعر بري وحليفه «حزب الله» بأنهما أصبحا أكثر استهدافاً من قوى 14 آذار، وباتت المطالبة بإنهاء سلاح الحزب أكثر إلحاحاً واستعجالاً.
ولأن طاولة التشاور، ثالثاً، تحاول أن تكون متنفساً يتفادى الاحتكام الى الشارع. وهو مغزى ما لفت اليه رئيس المجلس عندما نبّه الى «فتنة تبثّ فحيحها». ولعلّ ما يضاعف من القلق سلسلة مؤشرات، في أكثر من اتجاه ومكان، تنذر بإمكان إفلات اللعبة، في السياسة والشارع على السواء، من سيطرة اللاعبين:
ـــــــ خشية احتكاك أنصار طرفي النزاع في المدارس والجامعات في حمأة تصاعد التشنّج السياسي. ويصحّ الأمر على التعبئة المشحونة في صفوف «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» أكثر منه بين تيار «المستقبل» وأي تنظيم شيعي آخر. ويصير أكثر إقلاقاً عندما يتطرّف زعيما القوتين المسيحيتين الرئيس ميشال عون والدكتور سمير جعجع ـ وقد اختبرا أكثر من مرة مبررات الخلاف والصدام ـ في تأكيد انضمامهما الى هذا المحور أو ذاك.
ـــــــ تحوّل المرجعيات الدينية متراساً متقدّماً في تبنّي مواقف الفريقين المتنازعين بعد تحذير مجلس الأساقفة الموارنة برئاسة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير في 4 تشرين الأول، من حكومة وحدة وطنية تهدّد تأليف المحكمة الدولية، انتقل السجال على الحكومة في خطب الفطر الى المرجعيتين الإسلاميتين الأبرز: مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني تبنّى وجهة نظر تيار «المستقبل» من حكومة الوحدة الوطنية وأظهر قلقه على نتائج إسقاط الحكومة الحالية، ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان جارى مطالبة «حزب الله» وعون بحكومة وحدة وطنية انطلاقاً من تبريره الثلث المعطّل ووصفه بأنه الثلث المشارك. بذلك انتقلت عدوى الانقسام السياسي الى المرجعيات الدينية التي أضحت تجهر بمواقف تجعلها في صف هذا الطرف أو ذاك.
ولأن طاولة التشاور، رابعاً، تربك مشاركة قوى 14 آذار في محاولة لم تكتف بتحييد موضوعي التغيير الرئاسي وسلاح «حزب الله»، بل ترمي الى إضفاء شرعية وطنية على المطالبة بتأليف حكومة وحدة وطنية من خلال استدراج الغالبية الى مباشرة مناقشتها مع الطرف الذي ينادي بما تنكره عليه الغالبية تلك، الأمر الذي من شأنه تعريض مبادرة بري لاحتمال عدم التجاوب معها. وكان أول الغيث جدول الأعمال البديل، المناقض ببنوده كلها، الذي اقترحه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة.
وهو بذلك، بلياقة وقفازات من حرير، يريد أن يقول لرئيس المجلس من دون إغضابه إنه يرفض مبادرة تطيح حكومته، ويفضّل لطاولة التشاور أولويات أخرى، هي التي تطالب بها قوى 14 آذار.