طرابلس ــ صفوح منجد
مع انقضاء عطلة عيد الفطر، بدا واضحاً انهماك الأوساط السنية في طرابلس خصوصاً، والساحة اللبنانية عموماً، بمتابعة التطورات المتعلقة بشؤون الإفتاء، سواء لجهة بروز مسألة تأخير تعيين موعد لانتخاب مفت جديد لعاصمة الشمال خلفاً للمفتي السابق طه الصابونجي الذي مضى على قبول استقالته لدواع صحية أكثر من عشرة أشهر، أو لجهة تعيين الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً في عكار، الذي تباينت المواقف منه بسبب اللجوء إلى تعيينه بدلاً من انتخابه.
ويتأتى هذا الانهماك الطرابلسي من تخوف لدى الأوساط المحلية من إمكان اللجوء إلى التعيين بدلاً من دعوة الهيئة الناخبة لاختيار مفت جديد، على غرار ما حصل في عكار، الأمر الذي يلقى رفضاً تاماً من الهيئات الدينية والفاعليات السياسية في المدينة، وإصرارها على مبدأ الانتخاب لاختيار المفتي الثامن على امتداد قرن من الزمن، الذي بدأ مع المغفور له عبد الحميد كرامي الذي تولت عائلته سدة الإفتاء في المدينة لأكثر من جيل، إضافة إلى عائلات أخرى منها المقدم والزيني، إلى حين استقالته للانصراف إلى الحياة السياسية والنضالية ضد الانتداب الفرنسي، فخلفه الشيخ رشيد الميقاتي (1920) فالشيخ عبد الكريم عويضة بالوكالة (1953) فالشيخ كاظم الميقاتي (1955) فالشيخ نديم الجسر (1961) ليستقيل سنة 1979 فعيت امين سر الفتوى الشيخ رامز ملك مفتياً بالوكالة حتى مطلع الثمانينيات حين عيّن المفتي الصابونجي حتى استقالته.
ويبدو أن مسألة تعيين أو انتخاب مفت جديد لطرابلس، لا تمر بسهولة، كلما شغر هذا المنصب سواء بالوفاة أو الاستقالة. فعندما توفي مفتي طرابلس الشيخ رشيد الميقاتي عيّن الشيخ عبد الكريم عويضة مفتياً بالوكالة في انتظار إجراء الانتخابات. وترشح ثلاثة مشايخ كان أوفرهم حظاً الشيخ كاظم الميقاتي، وتأجلت الانتخابات لأنه لا أحد من المرشحين نال الأكثرية، ثم وردت فكرة ترشيح عبد الله كرامي شقيق الرئيس عبد الحميد كرامي لمنصب الإفتاء، وجمع الرئيس الراحل رشيد كرامي المرشحين وسأل الشيخ عويضة: هل أنت مصر على ترشيحك ، فقال: لا أتنازل إلاّ لواحد من هذا البيت، وهو يعني عبد الله كرامي. وسأل الشيخ عمر الرافعي فكان جوابه مماثلاً. أما الشيخ كاظم فقال: أنا مرشح في كل الأحوال سواء أترشح أحد من هذا البيت أم لا. وجرت المعركة الانتخابية وفاز الشيخ كاظم.
وفي خطوة لافتة عند وفاة المفتي الميقاتي، دعم الرئيس رشيد كرامي انتخاب الشيخ نديم الجسر رغم الخلافات السياسية بين العائلتين، واستتبع ذلك باختياره عضواً في لائحته النيابية في دورة (1955ــ1959)، غير أن الخلافات السياسية استحكمت بين الرجلين، فابتعد الجسر عن كرامي، وهذا ما دفع الأول إلى تقديم استقالته من سدة الإفتاء في طرابلس، وبرز اسم الشيخ الصابونجي الذي كان حينها قاضياً شرعياً، لكن تحركاً مضاداً لهذا الترشح من جهات محلية ولبنانية دفع بالمفتي الراحل الشيخ حسن خالد إلى تعيين أمين الفتوى رامز ملك في منصب الإفتاء بالوكالة إلى حين تذليل العقبات أمام الشيخ الصابونجي.
واليوم تتجدد هذه التباينات والخلافات بين قيادات المدينة وفاعلياتها الدينية والسياسية على من يشغل منصب الإفتاء في طرابلس، وهو منصب استحدثه الحكم العثماني، فأناط بالمفتي أمور الإفتاء في القضايا الشرعية.
ويُعَدُّ مفتو المناطق نواباً لمفتي الجمهورية في مناطقهم، لكن شخصية المفتين الذين تولوا منصب الإفتاء في طرابلس ارتقوا به إلى ما هو أبعد استناداً إلى مواقعهم السياسية وميزاتهم الشخصية، ولا سيما أن عدداً منهم أدى أدواراً بالغة الأهمية في الحياة الطرابلسية واللبنانية وحتى العربية، ومن هنا اكتسب هذا المنصب حضوره الفاعل على الساحة المحلية، مما يشير إلى حصول سلسلة من التجاذبات والتباينات. فمعركة منصب المفتي في طرابلس فتحت على مصراعيها، وسط تكهنات بارتباطها بجملة من التطورات على الساحتين المحلية واللبنانية، ليس أقلها استعادة مواقع القرار من هذا الطرف السياسي أو ذاك، ولا سيما أن المفتي السابق كان من المقربين من المملكة العربية السعودية في بداية نشأته، ثم تفاعل مع القضايا العربية والإقليمية، وكان له دوره الفاعل على هذا الصعيد، قبل أن تتدهور علاقاته مع الرئيس عمر كرامي في مطلع تسعينيات القرن المنصرم، ويتقرب من الرئيس رفيق الحريري طوال الفترة الماضية.