جوزف سماحة
لا جلسة تشاور اليوم. ثبت أن التشاور يحتاج إلى تشاور. وثبت أن هناك من يعطي الأولوية لمشاورات في الخارج. مارست قوى 14 آذار دور «الثلث المعطّل». لقد كانت موزّعة بين مسايرة الداعي والسلبية حيال الدعوة فدفعت نحو التأجيل وحصلت عليه وربما خطر لها، لاحقاً، أن تمتنع عن المشاركة فتُسقط الاقتراح من أساسه.
إن قوى 14 آذار على حق تماماً في خطوتها هذه. ومن الضروري الدفاع عن هذا السلوك الديموقراطي.
منذ أن «انفرد» رئيس المجلس نبيه بري بإطلاق دعوته والامتعاض، لدى الأكثرية النيابية والحكومية، ظاهر للعيان ومُعبّر عنه. لقد توالى القادة الآذاريون على إيراد الحجج التي تجعلهم غير متحمسين لتلبية الدعوة. لا بل خاض البعض منهم سجالاً ضد بعض آخر اعتبره متسرّعاً في القبول ومتهماً إياه بأنه صاحب غرض شخصي.
إن مخاوف الآذاريين من المبادرة مفهومة ومشروعة. تبدأ هذه المخاوف بالاعتراض على البند الأول من جدول الأعمال. لقد طالب رئيس المجلس ببحث موضوع حكومة الاتحاد الوطني. وهذا مطلب للمعارضة لا يأخذ في الاعتبار أن للأكثرية وجهة نظر أخرى تصرّ على أن المطلوب البحث في مصير الرئاسة الأولى حصراً أو، على الأقلّ، التطرّق إلى مصير «أزمة الحكم» كلها وفق ترتيب معيّن للأولويات.
ثم إن الأكثرية نفسها ترى أن مواضيع أخرى هي المواضيع الضاغطة فعلاً وخاصة بعد حرب الصيف وما سبقها ورافقها وتلاها وقبل انعقاد باريس ــ 3 والأهمية القصوى للإعداد له، مع ما يعنيه ذلك من استقرار في الوضع الحكومي. إلى ذلك، تخشى هذه الأكثرية الخوض في قانون جديد للانتخابات لما في ذلك من إيحاء إلى احتمال اللجوء إلى انتخابات مبكرة. والمعروف أن هذا مطلب محوري من المطالب التي يرفعها خصوم السلطة الحالية.
لقد نشأ نوع من الإجماع في لبنان على أن برّي لم يكن محايداً تماماً في ما أقدم عليه، وخاصة أنه أرفقه بالدفاع عن حقه في أن يكون طرفاً إذا جرى التطرّق إلى قضية سلاح المقاومة. لقد وجدت الأكثرية في «عيدية» بري نوعاً من العقوبة المفروضة عليها لذنب لم ترتكبه إلا إذا كان إيهام النفس بأن رئيس المجلس موجود في «لا موقع» هو هذا الذنب.
ما الحل في مثل هذه الحالة إلا تعطيل جلسة التشاور. أما الذرائع العلنيّة الرسمية المعطاة لذلك فهي دليل حسن نيّة لأن القصد منها عدم القطع مع الجهة التي وجّهت الرسالة. كذلك من حق هذه الأكثرية شن حملة مسبقة على أي لجوء إلى الشارع والتهديد بشارع مقابل شارع.
لا جلسة تشاور اليوم إذاً. إلا أن في إمكاننا النظر إلى الصورة نفسها من زاوية أخرى، من زاوية تظهر لنا كيف أن موقف الأكثرية قابل للاستخدام ضدها وضد منطقها.
لقد وجدت الأكثرية الحاكمة نفسها، فجأة، في موقع المعارضة. لا يلغي ذلك إطلاقاً أنها المسؤولة إلى حد كبير عن إدارة الشؤون العامة في البلاد، لكنه يعني، تحديداً، أنها، في هذا العنوان الخاص، انتقلت إلى صف الاحتجاج والرفض الواضح أو المقنّع. بدا أن بري هو «حاكم دولة التشاور» وأنه مدعوم من قوى توافق على دعوته شكلاً ومضموناً. وبدا أن الأكثرية النيابية والحكومية مضطرة إلى ممارسة حقّ النقض لأنه لم يؤخذ برأيها لا في الموعد، ولا في الإطار المناسب، ولا في جدول الأعمال. وبالفعل لجأت هذه الاكثرية، هنا، إلى التصرّف وكأنها الثلث المعطّل الذي ينجح في تأجيل التشاور لأن هناك فريقاً آخر انفرد بالدعوة إليه أو بتأييده. التشاور يوجب تشاوراً مسبقاً وهو غير وارد إذا كان موجّهاً ضد فريق سياسي أساسي.
إذا كانت هذه هي حال التشاور غير الملزم، فالأَولى بنا أن نطبّق قاعدة التعامل معه على السلطة التي تتّخذ قرارات ملزمة والتي تتصرّف في أمور خطيرة ذات صلة بالمصير الوطني العام. وتطبيق القاعدة نفسها يقود مباشرة إلى إعطاء الفريق السياسي اللبناني الأساسي المتحمّس للتشاور وجدول أعماله حق ممارسة النقض في ما يتعلق بسياسة الدولة وتوجّهات الحكومة. فإذا كان التشاور يفرض تشاوراً مسبقاً مرةً فالحكم، في لبنان، يفرض تشاوراً مسبقاً ألف مرة. ومن يتبرّم من المشاركة في جلسة حوارية غير ملزمة وينجح في تأجيلها يخسر حقه في التبرّم من رغبة الآخرين في المشاركة في السلطة.
لن يجد الداعون إلى حكومة وحدة وطنية حجة للدفاع عن وجهة نظرهم أفضل من تلك التي قدّمها إليهم «الآذاريون» بسلوكهم حيال «التشاور»: إن التوافقات الكبرى المسبقة هي شرط لا بد منه لعمل النظام الحالي (في انتظار قيام النظام الذي دعا إليه أمس الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني خالد حدادة). ومن يقل توافقات كبرى مسبقة يخطر في باله أول ما يخطر «حكومة الاتحاد الوطني». ومتى حضرت هذه الفكرة بطلت جدوى التشاور.