فراس زبيب
نخال، حين نسمع عن ناس فقدوا بيوتهم من جرّاء القصف الإسرائيلي، أن ما فقدوه هو مكان سكنهم. المكان الذي كانوا يجلسون فيه، وينامون. نخال أن ما فقدوه هو فسحة، زاوية ترسمها الجدران وتحدّها، ويغطّيها سقف وتختبئ خلف باب.
نخال أن البيت شيء مفرد، وأن بيتاً آخر، غيره، يعوّض عن فقدانه. نسمع عن عائلة دُمّر منزلها، فنتساءل أين سينام أفرادها الآن. ثم نسمع عن عائلة أخرى استأجرت بيتاً بعد أن دمّر بيتها، فنطمئن.
نسأل حين نلتقي بأهل الضاحية أو الجنوب: «هل حصل شيء عندكم»؟ ويجيبنا بعضهم أن منزلهم أصابه القصف ودمّره. فيتراءى لنا في مخيلّتنا منزل مدمّر، كما في الصور الكثيرة التي رأيناها عبر الوسائل الإعلامية، وتتوقف مخيلتنا عند هذا المشهد، وهذه الصورةنحزن على فقدانهم منازلهم، حزناً واحداً، مرة واحدة.
ننظر الى البيوت التي يحدثنا عنها هؤلاء الذين فقدوها كما ننظر الى الأشياء. نستحضر في مخيلتنا صورة البيت من الخارج، كأن أحدهم طلب منا أن نصوّره كله صورة واحدة. نتخيّله من الخارج، بجدرانه وسقفه، وشرفاته ونوافذه. نحصره في شكله الخارجي، أو، إذا ما تصوّرناه من الداخل، نراه غرفاً فارغة كما تكون البيوت حين تكون برسم البيع أو الإيجار.
كأننا ننسى، حين يحدّثنا هؤلاء الذين فقدوا بيوتهم عنها، أن ندخل اليها. ننسى أن نتجول فيها، ولو في مخيلتنا، وأن ننظر الى تفاصيلها. وأهل هذه البيوت، الذين اعتدنا في الآونة الأخيرة أن نراهم يتحدثون عنها بعد أن تهدمت، بحماسة نكاد لا نفهمها، يبدون كأنهم مثلنا لا يفكرون بتفاصيلها.
نراهم يهدون بيوتهم للقضية، وللمقاومة، وللسيد حسن نصر الله. يتحدثون عن فقدانهم لمنازلهم كأنها مجرد جدران وغرف فارغة لا شيء بداخلها. يقولون إنها «فدا السيد حسن نصر الله»، كأنهم، بعد أن يقولوا ذلك، سيعودون إليها ليرتاحوا.
وتمرّ الأيام على أهل البيوت الذين دمّرت بيوتهم. ومع الأيام ينتبهون إلى غياب الأشياء التي كانت داخل تلك البيوت. تعود الأغراض الصغيرة إلى ذاكرتهم تدريجاً، كأنهم يتذكّرون كل غرض حين يحتاجون إليه، أو حين يذكّرهم به غرض مثله يرونه عند غيرهم.
البيت ليس شيئاً واحداً، يحزن عليه حزناً واحداً، مرة واحدة. البيت علبة نضع فيها أشياء حياتنا، ونضع فيها ماضينا كل يوم بيومه. البيت فسحة في المكان، وفي الزمان.
تذكّر الرجل الخمسيني، بعد مرور أسبوعين على تدمير منزله، الصورة الوحيدة التي بقيت له من والدته المتوفاة. كما يتذكّر المرء فجأة مكان شيء أضاعه وبحث عنه مراراً، هكذا عادت الصورة إلى ذاكرة محمد. تذكّر مكانها بدقة أربكته: في الجارور الثاني، داخل الخزانة التي في غرفة النوم الكبيرة. جعلته تلك الصورة التي تقف فيها أمّه بثبات القدماء أمام الكاميرا، يسترجع في ذاكرته المنزل كله، بشكل مختلف. بزواياه وتفاصيله، بجواريره وخزاناته، وغرفه وأثاثه.
فاطمة لم تتذكّر دفتر يومياتها حين كانت طفلة، إلا بعد مرور وقت على اكتشافها أن بيتها دمّر تدميراً كاملاً. وهي، حين قالت على إحدى القنوات التلفزيونية إن منزلها «فدا المقاومة والسيد حسن»، لم تكن قد انتبهت الى دفترها بعد. هل هو أيضاً «فدا السيد حسن»؟ وماذا يريد السيّد نصر الله من دفتر كتبت فيه مراهقة أسرار مراهقتها؟
ضاع في أنقاض منزل الشاب علي عمل سنتين على أطروحته الجامعية، وندى تذكّرت وسادتها حين جاءت إلى منزلها الجديد واستلقت على سريرها لتنام. ورسائل جاءت إلى لمى من أخيها الذي في أفريقيا، ومسبحة والد زياد المتوفى...
هبة وأختها زينة تذهبان كل يوم الى حيث كان منزلهما في منطقة الضاحية، وتجلسان على مقربة من أنقاضه، وتتفرّجان على الجرّافة التي تنزع الأنقاض وتقلّبها. تنتظران أن يخرج شيء من تحتها. شيء من أغراض البيت، ومن ماضيهم الذي تقلب الجرافة حجارته بقسوة تزعجهما، رغم الدمار الكــــليّ الــــذي أصاب المنزل.