ابراهيم اللآمين
الهدوء الذي اتسم به خطاب الرئيس نبيه بري، شكّل مخرجاً لقسم كبير من فريق الأكثرية الذي يريد باباً جديداً للحوار. بري كان واحداً من أقطاب كتلة واجهت الكثير من الاختبارات في العقود الأخيرة. و«الشيعة» الذين عارضوه سابقاً ودانوا سلوكه في السلطة وطريقة تمثيله الطائفة خلال الحقبة السورية، يرون فيه اليوم وجهاً يناسب الحضور السياسي لهذه المجموعة اللبنانية التي تؤدي دوراً يفوق حجمها. وربما هو يساعد في منع الخشية المشروعة من انهيارها بسبب فقدان التوازن، وفي تقليص حجم المخاوف عند الآخرين من اجتياحها مراكز القرار السياسي والأمني والإنمائي في البلاد. لكن الباب الذي فتحه بري واسعاً، كان إشارة جديدة الى اقتناعه القوي أكثر من السابق بأن الحوار الداخلي هو الوسيلة الوحيدة للتوصل من جديد إلى ميثاق بحكم العلاقات بين المجموعات اللبنانية. وهو أمر وإن قاله حزب الله مراراً، إلا ان مفعوله على لسان بري يأخذ شكلاً آخر، فالأخير يعرف سائر أركان الدولة معرفة الشريك الكامل. فقد شارك الحريري الأب وجنبلاط الابن والقادة المتعاقبين في الميدان المسيحي كل جولات الحروب الداخلية وإنجاز الطائف. وهو الذي يعرف التركيبة السورية في وجهيها سواء الذي قاده الأسد الأب أو الأسد الابن أو سائر التركيبة السورية التي ضمّت في الماضي عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي والمرحوم غازي كنعان. وبري هو أيضاً الرجل السياسي الذي عانى نقصاً في الاعتراف به من الآخرين. فقد كان في رأيهم صورة «انقلابية» في التمثيل السياسي، وهو أول المساهمين في نقض التقليدية السياسية عند الشيعة دون أي تسوية أو مراعاة لها، مخالفاً أترابه من القادة العسكريين المسيحيين الذين حفظوا صلة الوصل مع الأساس التقليدي الذي أدار المصالح المسيحية في الدولة. وقد أدى دوراً محايداً مع التوالد المستمر للزعامة الجنبلاطية على الدروز. ومثّل أحد أركان الفريق الداخلي الذي عارض سريعاً الرئيس إميل لحود وفريقه الأمني والسياسي وواجهه فترة طويلة. وهو السياسي الشيعي الذي دافع عن دخول لبنان العالم العربي من بوابته السورية، لكنه سمع عتباً سورياً دائماً على عدم إقفاله الباب مع الآخرين في مصر والسعودية. وبري يمثل اليوم نقطة التقاطع الضرورية التي لا غنى عنها لكل اللاعبين المحليين من الآذاريين على اختلاف مواقيت الشهر الى الأياريين على اختلاف مواقيت الشهر أيضاً.
وبري الذي يعرف أن الحوار هو المخرج المناسب للجميع داخلياً وإقليمياً وخارجياً، يعرف أيضاً أنه لا مجال للعودة الى جدول الأعمال السابق كما كان قبل الحرب السادسة. فالاستراتيجيا الدفاعية تعرضت لاختبار عملي. والحكومة بدت أمام أكثر من سياسة خارجية واحدة. والبلاد بدت مجتمعة حيال نكبتها الناجمة عن الجرائم الإسرائيلية لكنها منقسمة حول طريقة المواجهة. وهو انقسام لا يزال قائماً ويتوقع له أن يشتد كلما اقترب زمن القرارات الصعبة. ومع ذلك فإن بري الذي يعرف أكثر من غيره استحالة استمرار الحكومة الحالية، لا يرى موجباً لمعركة تحطّم كل شيء فقط لأجل تحقيق تغيير دون تحقيق المراد من هذا التغيير. وهو لذلك يتجنب اليوم إطلاق أي موقف من المواقف المتعارضة مع هذا العنوان. فلا يقر بأحقية التغيير ولا يعتبر الحكومة الحالية كافية للنطق باسم الجميع. وإذا ما ألح أحد عليه بالسؤال يجيب: “ناس بدهم وناس ما بدهم.. بنشوف بعدين”!.
على أن جدول أعمال القوى كافة بات الآن محدداً بطريقة مختلفة، وهو سيشمل من دون مواربة ثلاثة عناوين: مصير الحكومة، مصير رئاسة الجمهورية وملف الاستراتيجيا الدفاعية.
في البند الأول تصر قوى الأكثرية على بقاء الحكومة الحالية دونما تغيير. ويتوقع أن يتولّى مسيحيو الأكثرية معركة الدفاع عنها، باعتبار أن أي تعديل أو تغيير سوف يشمل المواقع المسيحية بصورة رئيسية. وهو أمر يُعتقد أنه سينعكس سلباً على “الحضور المنفوخ” لهؤلاء داخل حكومة الرئيس السنيورة. وتبيّن أن الرئيس أمين الجميل والدكتور سمير جعجع قبلا بمهمة الدفاع عن الحكومة بناءً على طلب كل من وليد جنبلاط وسعد الحريري، مقابل أن يرفع السنيورة مستوى مشاركة هذا الفريق في مجلس الوزراء وأن يجري “مد” هذا الفريق بمزيد من الخدمات من خلال الحقائب الوزارية الأساسية.
في البند الثاني تفترض قوى الأكثرية أن تغيير الرئيس لحود يجب أن يكون شرطاً لأي تغيير حكومي. ويفترض هؤلاء أنه يجب المسارعة الى حسم هوية مرشح 14 آذار لكي تخاض المعركة على أساس واضح ولا يصار القبول بأي خيار من شأنه تعديل ميزان القوى القائم حالياً في المجلس النيابي. يبدو واضحاً في هذا المجال أن فريق الأكثرية منقسم على نفسه بين رأي جنبلاط والحريري باختيار رئيس من النوع الذي يبقى تحت سيطرتهما، وسعي بعض مسيحيي السلطة لاختيار مرشح يحظى ببعض الاستقلالية لمواجهة أي حملة عليه من جانب الغالبية المسيحية الموجودة خلف العماد ميشال عون.
أما في ما يتعلق بالبند الثالث، فإن فريق الأكثرية يعتبر أن تقيد لبنان بالقرار 1701 من شأنه توفير سياسة دفاعية تقيه شر أي عدوان إسرائيلي جديد وتتيح تعزيز القدرات الدفاعية للجيش اللبناني معززاً بقوة دولية. وبالتالي فإن هذا الفريق لا يرى في نتائج الحرب الأخيرة ما يجعله يتراجع عن مطلبه الأساسي بنزع سلاح المقاومة ولو بعد حين.
في المقابل، فإن الفريق المعارض لا يرى إمكان استمرار البلاد مع هذه الحكومة التي أظهرت الحرب غياب التفاهم داخلها، مما انعكس سياستين خارجيتين. وكذلك عدم التفاهم على طريقة مواجهة المطالب الخارجية وكيفية التعامل مع حالتي “ثكنة مرجعيون” و“الحصار المفروض على لبنان”. كذلك في شأن الدور المفقود للدولة في مواجهة معركة الإعمار وإزالة آثار العدوان. وفي استمرار الحملات الضمنية التي تعكس توتراً سياسياً أكثر من أي شيء آخر. عدا أن هذه الحكومة لم تُعد الاعتبار الى مجلس الوزراء بقدر ما كرست “اختطاف” هذه المؤسسة من جانب تحالف جنبلاط ــــ الحريري.
وهكذا فإن الفريق المعارض لا يرى بُداً من العمل لتغيير الحكومة ويعتقد أن هناك أكثر من وسيلة لتحقيق هذا الأمر. أما الرئاسة فإن تغيير شاغلها يجب أن يكون رهن الاتفاق على رئيس قوي لا يخضع للأقطاب المسلمين، وليس بين المرشحين من هو مؤهل لهذا الدور إلا العماد عون. ولكن الحديث الطويل هو ذاك المتعلق بالاستراتيجيا الدفاعية.