نقولا ناصيف
على امتداد استمرار الحصار الإسرائيلي البري والبحري والجوي للبنان منذ وضع القرار 1701 موضع التنفيذ صباح 14 آب الفائت، تفرّدت قطر دون سائر الدول العربية بكسر الحصار، فحطت طائرة قطرية الاثنين الفائت (4 أيلول) في مطار رفيق الحريري الدولي. في الأيام الثلاثة السابقة لهبوط الطائرة، استدعت الحكومة القطرية رئيس الممثلية التجارية لإسرائيل في الإمارة، وأبلغته أن الطائرة ستحطّ في مطار بيروت وتكسر الحصار، وأن الإمارة لا تطلب إذناً من الدولة العبرية، إلا أنها تأمل ألا تعمد هذه الى عرقلة الخطوة واعتراض الطائرة، وأوضحت له أنه يعي حتماً، تبعاً لمهمته، ما تتوخى قطر من خطوتها. ولأن لا سفارة من جراء عدم وجود تبادل ديبلوماسي بين البلدين، شرحت الحكومة القطرية لرئيس الممثلية التجارية الإسرائيلية الدوافع الإنسانية لتسيير رحلة تحمل مساعدات، بالإضافة الى فحوى العلاقات القطرية ــــــ اللبنانية. وانتهى الأمر عند هذا الحدّ.
كانت الإشارة الضمنية في الموقف القطري أن على إسرائيل، ألا تحول دون وصول الطائرة، وفي ذلك هدف مزدوج: هبوط الطائرة القطرية بلا عقبات وكسر أول للحصار، وإلا أدت العرقلة الى إقفال مكتب الممثلية التجارية الإسرائيلية في الدوحة، وهو الأمر الذي لا تحبذه تل أبيب.
لم تكن خطوة الإمارة هذه، على تأثيرها، سبباً مباشراً لكسر الحصار الإسرائيلي، بيد أنها وضعت لبنة أولى جدية، بعد محادثات كان قد أجراها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان في تل أبيب (30 آب) عندما وصف الحصار، أمام رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت، بالإجراء الاستفزازي المخالف للقرار 1701، ولفته الى أن وجود القوة الدولية في جنوب لبنان كفيل بطمأنة إسرائيل حتى قبل أن يكتمل وصول القوة الى لبنان، مع تلميحه الى إمكان التفويض الى هذه القوة أمر مراقبة المياه الإقليمية اللبنانية. في الحصيلة أبلغه أولمرت أنه قد يوافق على فك الحصار عندما يبلغ عدد القوة الدولية في لبنان خمسة آلاف.
الى هذه المعلومات التي تداولها أمس ديبلوماسيون لبنانيون واسعو الاطلاع، كان ثمة معطى آخر يتردّد في أوساط محافل رسمية مفاده أن استمرار الحصار بات مأزقاً لأكثر من جهة لبنانية ودولية، ولكن من غير أن يكون في وسع هذه المحافل تأكيد موعد فكه.
وعزت ذلك الى أسباب شتى:
1 ــ أن الحصار الإسرائيلي تحوّل مشكلة متفاقمة لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تحظى بتأييد واشنطن وباريس ودعمهما، كذلك أصبح استمراره عاملاً لإضعافها في الداخل وتصعيد نبرة المعارضة لها تحت وطأة الآثار الداخلية الناشئة عن حصار يستهدف حكومة السنيورة والشعب اللبناني، لا «حزب الله». وجاء اعتصام المجلس النيابي في أيامه الخمسة ليضفي على رفض الحصار بعداً وطنياً واسعاً، الأمر الذي يحتّم على واشنطن خصوصاً التدخّل لرفعه تفادياً لمزيد من الإرباك والإحراج لحكومة الغالبية الحاكمة، العاجزة عن أي مبادرة لدى حلفائها وأصدقائها من الدول الكبرى، وتحديداً الأميركيين والفرنسيين. وحمل ذلك مسؤولاً بارزاً على القول في أوساطه ان واشنطن تريد أن تحمي في آن حكومة أولمرت وحكومة السنيورة.
2 ــــــ لم يعد في مقدور الحكومة اللبنانية تقديم تنازلات إضافية لا تدخل في صلب ما ينصّ عليه القرار 1701، بعد رفضها مطلبين لم يعهد بهما اليها، هما نشر جنود دوليين على الحدود اللبنانية ــ السورية ونزع سلاح «حزب الله» تطبيقاً للقرار 1559.
3 ــ ربط الحكومة اللبنانية توجيه كتابها الى الأمم المتحدة لنشر 3000 عسكري قبالة الشاطئ اللبناني برفع الحصار الإسرائيلي عن لبنان. وكان طلب وضع كتاب بذلك قد تبلغته الحكومة اللبنانية من الأميركيين، على أن يُوجّه الى المنظمة الدولية قبل فك الحصار، ويكون بمثابة تأكيد لبناني رسمي بالموافقة على مراقبة دولية لمياهه الإقليمية. لكن لبنان تحفّظ على هذا الطلب بعد مشاورات أجراها السنيورة بالرئيس نبيه بري الذي رفض الأمر قبل رفع الحصار. على الأثر، بعد اجتماعات بين قيادتي الجيش اللبناني والقوة الدولية في الجنوب (اليونيفيل) اتفق على «أمر عمليات» عسكري يرسم آلية المراقبة الدولية للمياه الإقليمية من دون الانتقاص من السيادة الوطنية ووفق شروط لبنانية عبّر عنها ما صدر عن مجلس الوزراء الاثنين الفائت (4 أيلول) في صيغة دقيقة ومدروسة حظيت بتأييد بري: أن تحصر مراقبة المرافق وحركة الملاحة البحرية بالجيش حتى الأميال الستة الأولى في المياه الإقليمية اللبنانية (6 كلم)، على أن يطلب الجيش عند الحاجة المؤازرة في الأميال الستة الباقية التي تنتشر فيها القوة الدولية الألمانية والاستعانة بتقنياتها (زوارق ورادارات...)، وتكون أمرة العمليات في هذه الحال للجيش أيضاً.
ومع أن «حزب الله» رفض المراقبة الدولية للشاطئ اللبناني لأسباب أوردها في جلسة مجلس الوزراء، وحملته على التصويت ضدّ هذا القرار، فقد تجنّب افتعال مشكلة. ترافق ذلك مع اتصال أجراه وزير حركة «أمل» محمد جواد خليفة ببري الذي اتصل بالأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله في أثناء انعقاد الجلسة التي انتهت باقتصار المعارضة على وزيري الحزب محمد فنيش وطراد حمادة، بينما أيّد وزيرا بري القرار، وثُبّت في محضر الجلسة «الموقف المبدئي» لـ«حزب الله»، وهو رفضه المراقبة الدولية للمياه الإقليمية اللبنانية لانتهاكها القرار 1701 الذي لا ينصّ عليها، من جهة، ولأنها، شأن المطالبة بالمراقبة البرية للحدود اللبنانية ــــــ السورية، لا تدخل في متن القرار نفسه وتتعرّض للسيادة الوطنية المنوطة بالجيش اللبناني وحده، من جهة أخرى. فضلاً عن أن القرار 1701 يضع آلية تسوية النزاع العسكري بين لبنان وإسرائيل في نطاق منطقة حددها هي جنوبي نهر الليطاني حتى الحدود اللبنانية ــــــ الإسرائيلية.
وفي ضوء ذلك تكمن مبررات توجيه الكتاب الى الأمم المتحدة، وهي الحاجة الى غطاء قانوني للمراقبة الدولية من خلال رسالة من الحكومة اللبنانية الى الأمم المتحدة ما دام القرار 1701 لا يقول بذلك. وقد وُجّهت الرسالة إلى نيويورك ليل أمس.
وفي واقع الحال تكمن لامبالاة «حزب الله» حيال توجيه الكتاب ــــــ وكان قد أكد رفضه سلفاً ــــــ في أنه لا مرافئ له على طول الشاطئ اللبناني يُسرّب من خلالها أسلحته التي تعوّل خصوصاً على الممرات الجردية والمعابر غير الشرعية البرية عند الحدود مع سوريا. وفي حقبة ما قبل انسحاب الجيش السوري من لبنان، لم يكن إمداد الحزب بالسلاح سرّاً مطموراً.