إبراهيم الأمين
تبدو البلاد مقبلة على مواجهة سياسية ساخنة بغضّ النظر عن مناخات الحوار الذي سيكثر اللاعبون من الحديث عنه وضرورته وأهمية حصوله وعدم توقفه... إلى آخر المعزوفة التي ستصمُّ آذان اللبنانيين من دون أن يعرفوا شيئاً عن تفاصيل الحوارات المغلقة التي تجريها القوى في ما بينها أو بين المتحاورين على الطاولة التي يصعب توقع أن تكون في المرة المقبلة على الهيئة نفسها، لا لتبدل في واقع الجالسين حولها، بل لتبدل إلزامي في جدول الأعمال، وخصوصاً أن فريق الأكثرية يعرف أنه ملزم من الآن فصاعداً وضع برنامج عمل يتناسب والواقع السياسي والشعبي الجديد، وطبعاً وفق القاعدة التي يُقرُّ بها الجميع، وهي أن ما كان قبل 12 تموز لن يكون ما بعد هذا التاريخ.
من جانبه باشر رئيس المجلس النيابي نبيه بري ترتيبات “الحوارات الجوّالة”، وأجرى حتى الآن مناقشات مع كل من الرئيس أمين الجميل والنائبين وليد جنبلاط وسعد الحريري ومع قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع. وهو أصلاً على تواصل مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وسوف يعقد لقاء قريب بينه وبين العماد ميشال عون، علماً أن المشاورات سوف تشمل هذه المرة قوى أخرى ذات حضور حقيقي، ولو كانت خارج الأطر التي احتوت التحرك في المرحلة السابقة. وهي أمور ستكشف عن إعادة الاعتبار إلى الدور السياسي العام لقوى جرب تكتل الأكثرية حجبها عن صورة المشهد السياسي عبر حجبها عن المشهد الإعلامي. وهي نفسها القوى التي دفعت ثمن هزيمة حلفاء سوريا بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري والتي تراجع حضورها التنفيذي بعد الانتخابات النيابية الأخيرة. لكن الأهم في كل ما سيناقش في المرحلة المقبلة، هو ما يتعلق بالواقع السياسي للدولة عموماً وللحضور المسيحي في الدولة خصوصاً.
وبينما حاول فريق 14 آذار التسلح ببيان المطارنة الموارنة الأخير لناحية الهجوم على موقع رئاسة الجمهورية كما فعل الدكتور جعجع وكما أعلنت قوى 14 آذار، فإن الخلل في التمثيل والفاعلية المسيحية في السلطة التنفيذية قد عبّر عنه البيان بالحديث عن تفرد الطوائف بحكم البلاد من جهة، وعدم توجيه رسائل دعم مباشرة لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة من جهة أخرى، وخاصة أن جعجع ومعه نواب من “لقاء قرنة شهوان” السابق قد عملوا طوال الأسبوع الماضي على محاولة إقناع البطريرك الماروني نصر الله صفير ومطارنة آخرين بالحديث عن هذه النقطة مباشرة.
الأمر الآخر يتعلق بالموقف من المقاومة وطريقة التعامل مع القرارات الدولية. وثمة مراجعات بالجملة لم تبدأ بشكل متكامل بعد. وهناك قدر عال جداً من التوتر الذي يحكم المبادرات والمواقف السياسية، سواء لناحية الموقف الإجمالي من الدولة الذي يطرحه فريق الأكثرية على خلفية أن خصومهم لا يرغبون بالعمل تحت سقف الدولة، فيتهمون حزب الله بأنه خارج عن “المشروع اللبناني”، كما عبر لقاء 14 آذار أمس، ويتهمون العماد عون بـ“الانقلاب على الانتفاضة الاستقلالية” كما يقول أصحاب الرأي نفسه، في مقابل رفض من جانب تفاهم عون ــ نصر الله لهذا النمط من الوصاية الجديدة التي تفرضها السفارات من جهة، وتفرضها القوى العاملة تحت سقف المصالح الخارجية من جهة أخرى. ويؤكد تفاهم عون ــ نصرالله أن التيار الوطني الحر وحزب الله كانا فقط من عاش خارج السلطة السابقة وظلا على الدوام خارج إطار المغانم التي حصلتها غالبية فريق الأكثرية من خلال نوع العلاقة التي كانت تربطه بالسلطة السورية التي تولت الإشراف على إدارة الوضع في البلاد خلال 15 سنة.
على أن كل التباين في النيات وفي المواقف من الجانبين، لن يغير في كون جدول الأعمال سيحصر في نقطتين: الأولى تخص فريق الأكثرية وتركز على ملف رئاسة الجمهورية، والأخرى تخص المعارضة وتركز على ملف الحكومة. وفي معزل عن مختلف التحليلات القائمة، فإن القرار الجدي بإقالة الرئيس لحود متخذ من جانب الأكثرية ولكنها تبحث في الوسائل الممكنة والعملية لتحقيقه، بينما قرر الآخرون إسقاط الحكومة والبحث أيضاً جار عن الوسائل الفضلى.
لكن هل من مخارج؟
في رأي مرجعية معنية الأمر رهن خطوة أولى تتصل بمسعى الرئيس بري لاستئناف الحوار على أساس ما انتهت به الجولة الأخيرة. والعودة إلى جدول الأعمال السابق تعني الإقرار بأن التطورات التي جرت أتت على أشياء كثيرة، وهذا يتطلب إقراراً من الجميع بأنه لا يمكن التصرف على أساس أن هناك من يقدر على نسف المعادلات الداخلية لمجرد أنه يرغب بذلك أو لحسابات خاطئة. وإذا كان بري قد سمع ترحيباً من الكل بهذه الخطوة، فإنه يقر بصعوبة العودة سريعاً إلى الحوار السابق ما دام الاستعداد الجدي للمضي نحو تسويات لنقاط الخلاف غير متوافر.
ومع أن بري يتجنب بقوة الحديث عن التغيير الحكومي، فهو يلفت من يلتقيهم إلى أن الوضع السياسي في البلاد يحتاج إلى توسيع أفق المشاركة في إدارته، ممّا يفرض فتح البحث في الأمر. وهو الأمر الذي يطرحه حزب الله والتيار الوطني الحر على شكل فتح البحث الهادئ بتغيير حكومي يأخذ في الاعتبار الأحجام الحقيقية للقوى التي تقود الحياة السياسية، وهو ما يعني عدم إصرار فريق الأكثرية على قواعد التمثيل التي اتبعت خلال تشكيل الحكومة الحالية عندما كان فريق الأكثرية يتكل على “التزام حزب الله المشاركة لأسباب تتجاوز حجم التمثيل”.
وفي الشق الآخر، يبدو أن حزب الله والقوى المؤيدة للمقاومة أو للاحتفاظ بسلاح المقاومة أمام اختبار تقديم آلية لمشروع يقود نحو توافق خارج إطار التوتر الداخلي من جهة، وخارج إطار المواجهة المباشرة مع الخارج من جهة أخرى. ومع أن الكل أدلى برأيه في الأمر خلال الاجتماعات الأخيرة للحوار، فإن الأمر بات رهن قراءة نتائج الحرب الأخيرة على لبنان. وخاصة أن في فريق الأكثرية من يعتقد أن نتائج الحرب تثبت وجهة نظرهم بضرورة إخضاع المقاومة لقرار السلطة المركزية، في مقابل رأي آخر يقول إن بناء الدولة يبدأ من زوايا آخرى وإن استعادة الثقة بدور الدولة ومؤسساتها السياسية والإدارية هو معبر إلزامي قبل جعل السلاح مادة الحوار الأولى.
مرة جديدة يعود الجميع إلى النقاش المباشر أو غير المباشر، لكن الأكيد هو أن البلاد أمام توازن سياسي من نوع جديد، وهو النوع الذي لا تحجبه الهجمة الإعلامية لفريق الأكثرية .