strong>هناك قصص لا بدايات لها، كما قصة أيّ مقيم في المربّع الأمني... يكفيك أن تسير في أحياء المربّع، بعد أن تنقل الكمّامة من أنفك إلى عينيك، فوق كومة من ذكريات كنت اعتقدت أنها اختبأت في أمكنة آمنة وفوجئت بها تهجم عليك دفعة واحدة
(إلى علـي رضـا... شـهيداً كمـا أحببـتَ)


1

يسمّونها الآن كنيسة حارة حريك، وأنت لم تعرفها إلا مدرسة. تدخل كل صباح إلى كنيستها وتصلي فيها... وتدخل الصف متمنياً ألا يمارس أستاذ الرياضيات هوايته في تجربة مساطره المتنوّعة على الكسالى... نسيت متى أقفلت المدرسة أبوابها وصارت كنيسة. تعرف أن الحرب نقلت مكانها وغيّرت اسمها من école في حارة حريك إلى collège في الصفير.
قبل أن تندلع حرب ثانية تكون قد انتقلت إلى مدرسة ملاصقة للبيت الكائن في بئر العبد. تتسلّل إليها كل صباح عبر كاراج يسبح صيفاً وشتاءً بالمياه الآسنة... كاراج سيفرحك أن تركض إليه كلما اشتد القصف فتأخذ عطلة، كما عطلة ذلك اليوم الذي اغتيل فيه رئيس مجلس الوزراء رشيد كرامي...
بعد هذه الحادثة بقليل، ينتقل المدير وشقيقاه إلى “الشرقية” بعد أن يسلّموا المدرسة إلى مدير جديد سيطردك في أول مرة يتأخر فيها والدك عن تسديد الرسوم... يومها لن تكون سعيداً بعبور الكاراج ــ الممر باكراً.
“لن أعود إلى تلك المدرسة” تقول باكياً وتنجح في إقناع والدك بأن تنتقل إلى مدرسة أخرى ليست بعيدة كثيراً عن البيت. مدرسة يكتمل فيها المربع: حارة حريك، الصفير، بئر العبد وحي ماضي.


2

مربع صغير، لكنه قادر على احتضانك.
من مكتبة جبران، مروراً بأبي سمير صاحب الفرن الذي يفاخر بأولاده الذين تخرّجوا من الجامعات، ووصولاً إلى الجامع الذي تدخله أول مرة مع ناهلة وهبة لسماع السيّد محمد حسين فضل الله وهو يتلو دعاء كميل ليلة الجمعة بصوته.
تدخل الجامع معهما وتصعد إلى الطبقة الثانية حيث النساء. رغبتك في اكتشاف المكان الجديد للدعاء، الذي يختلف كثيراً عن مصطبة الجدة في القرية المحتلة، تطغى على أي محاولة للخشوع أو التركيز في الصلاة.
تدخل إلى الجامع وتخرج منه من دون أن تعرف شيئاً عن تاريخه... كما لم تكن تعرف من هو السيد فضل الله وأن محاولة لاغتياله كانت قد وقعت في المكان. كنت تعرف أنه المكان الذي يتكرر منه النداء: “من أحيا نفساً كأنما أحيا الناس جميعاً... أخ بحاجة ماسة إلى دم... على الراغبين بالتبرع...”. لاحقاً، ستعرف أنك دخلت مسجداً ينطلق منه شباب المقاومة، ذلك عندما سيبدأ أهل المربع ترديد نشيد تقول كلماته: “القلب قد مضى نحو رحاب السعد، لمسجد الرضا... مسجد بئر العبد”.
تردد هذا النشيد على مسمع العم الذي يصل فجأة من القرية، حليق الرأس. ترافقه في ذلك المساء الرمضاني لتحضير المناقيش في فرن قرب الجامع وتسأله ساخراً عن سبب هذه “القرعة” فيسكت. تقول لك أمك صباحاً إنه كان في معتقل الخيام... الذي كان أهل المربع يرددون له نشيداً أيضاً: “معقل الخيام، يا صوت الجنوب الرافض. معقل الخيام يا قلب الجنوب النابض”.
لا يبقى العم كثيراً في البيت الكائن في المربع... يسافر بطريقة غير شرعية إلى واحدة من الدول اللاتينية، حاملاً معه شريط كاسيت يتضمن نشيداً تقول بعض كلماته: “ما ذنب أطفال الجنوب، وما فعلت تلك النساء حتى يعشن تشردا...”.
يخلي العم زنزانته في الخيام لتحلّ مكانه ابنة الخالة. كانت تزورك قبل توجهها إلى القرية بيوم واحد، جلست على شرفة مطلّة على أحد المراكز الأمنية للمقاومة وراحت تروي لك ما تحفظه ذاكرتها، طفلة، من قصص للفدائيين الفلسطينيين الذين كانوا يقاومون الاسرائيليين انطلاقاً من أودية القرية الحدودية. أيام قليلة تلت شربها لفنجان القهوة على تلك الشرفة، ويأتيك خبر اعتقالها إثر عملية استشهادية في بلدة كفركلا نفّذها ابن القرية الحدودية نفسها: عبد الله عطوي أو الحر العامليّ.
منذ ذلك التاريخ، تصير تغرق في التفاصيل... تحفظ أسماء كل الشهداء والمعتقلين، تنتبه أكثر إلى النشيد الذي يتردد في المربع على وقع مسيرات عسكرية تنظم في أكثر من مناسبة: “... ونمضي على هدي قرآننا، ألا إن حزب الله هم الغالبون”... منذ ذلك التاريخ أيضاً، تغرق في زواريب المربع، الذي أصبح أمنياً.


3

تخرج من المربع الأمني إلى الثانوية في العاصمة بيروت. هناك تشعر بالغربة عن أغاني هاني شاكر وعمرو دياب التي تتردد في الديسكوتيك المقابل للمدرسة. غربة لا تنجيك منها المكتبة التي لا تتفوق بتنوّعها على مكتبة أبيك على رغم أن كتبه بمعظمها محروقة “بسبب احتراق بيتنا في اجتياح عام 1982” تكرّر أمك بحرقة تلازمها إلى اليوم، وهي التي خسرت في البيت كل صور أطفالها.
غادة، الفتاة الفلسطينية في الصف، هي من تخرجك من غربتك بحديثها في ساعة اللغة العربية عن جدتها وذكرياتها في قرية “الكويكات”. جدتها محاصرة بمفتاح بيت لا تزال تحمله في صدرها وجدتك محاصرة في قرية محتلة لا تستطيع الذهاب لزيارتها فيها. تصير قصص الجدتين مادة الحديث المفضلة لمدرّسة اللغة العربية التي لا تزال تحنّ إلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر وتحفظ أغنيات عبد الحليم للثورة. تخبرها عن الأناشيد التي تتردد في المربع فتسخر من المتشددين الراغبين في إقامة دولة إسلامية.
سخريتها تعيدك إلى المربع مع سؤال ستطرحه على كل من قد تلتقيه، وتخلص إلى نتيجة: الناس في المربع مسلمون، يصلّون ويصومون. لكنهم لا يتحدثون عن إقامة دولة إسلامية. تخبر المعلمة عنهم. تقترح عليها زيارتهم فتستنكر الدعوة التي تعني الذهاب إلى “الضاحية ــ المربع”... المكان المخيف لكثيرين، كما ستكتشف لاحقاً.
يمرّ عام وتدخل في عام دراسيّ آخر، ثم يحلّ شهر شباط الذي تغتال إسرائيل في منتصفه السيد عباس الموسوي. وفي اليوم التالي، تلتقي المعلّمة في الممر: تقبّلك وتضغط على كتفيك.


4

إنها عطلة الصيف وأنت داخل المربع مجدداً. لا قرية تتوجه إليهاكما زملاؤك في المدرسة.
في الشارع شبان كثيرون يجمعون التبرعات للمقاومة التي تتصدّى للعدوان الاسرائيلي على قرى الجنوب في تموز 2003. بين المتبرعين طفل يفتح قجته وشقيقته أمام الصندوق، ويفرح بملصق دائري يأخذه في المقابل رسم عليه شاب مقاوم يطلق صاروخاً.
يمر شهران، وتنطلق عند حدود المربع تظاهرة احتجاجاً على توقيع اتفاق أوسلو. لكن ما يصل إلى أسماع سكان المربع ليس صدى الهتافات، إنما صوت لإطلاق نار. نار أطلقتها قوى أمنية لبنانية وتعلمك أصوات سيارات الإسعاف أنها استهدفت المتظاهرين عند جسر المطار.
“يا شورى يا أفاضل... نريد أن نقاتل” تهتف الجموع التي تحتشد في ساحة شورى “حزب الله”، ويخرج السيد حسن نصر الله ليهدّئ الناس قائلاً: “سنقاتل أسيادهم”.
ذلك المساء، تعرف أن للمربع الأمني قلباً اسمه: ساحة الشورى.


5

تدخل الجامعة فتصبح خارج المربع من جديد. وما قالته المعلّمة عن المقاومة وأحزنك يتكرّر بتعابير أقسى على ألسنة آخرين هنا. لكنك هذه المرة لا تحزن. فأنت تلتقي في الجامعة بشباب من المقاومة كان علي رضا أحدهم. تقلق عليهم كلّما غبت في عطلة طويلة لأنك تعرف أنهم سيتوجهون خلالها إلى الجنوب. هم لا يقولون لك ذلك لكن يمكنك أن تخمّن من اسمرار لون بشرتهم.
يزداد القلق على الأصدقاء في الجامعة في عطلة ربيع عام 1996. إنه عدوان “عناقيد الغضب” الذي يبدأ بضربة لمحيط المربع الأمني في الضاحية وينحسر إلى الجنوب. لكنه قلق لا يسمح له صمود المقاومين بالتغلب عليك. مقاومون سيعودون بعد ستة عشر يوماً وعيونهم تلتمع ببريق الانتصار.


6

أيلول مجدّداً... أربعة أعوام مرّت على حادثة جسر المطار وساحة الشورى تتحضّر كعادتها منذ ذلك التاريخ لاحتفال مسائي. لكن الخبر الذي يصل ظهراً إلى سكان المربع يقلقهم: “استشهد ابن السيّد”...
الخبر الذي يلي يصدم الأهالي أكثر “السيّد سيحكي مساء” وتتوجه الأنظار إلى ساحة الشورى التي يطل فيها الأمين العام ويحمد الله “الذي نظر إلى عائلتي واختار منها شهيداً”..
بعد هذا التاريخ، لا يعود المربع الأمني مكاناً مخيفاً. تتحوّل الطريق الممتدة من ساحة الشورى إلى منزل السيّد فضل الله الجديد مكاناً لاستقبال المعزين الذين توافدوا بالآلاف، أو كما يفضّل السيّد، مكاناً لاستقبال المهنئين باستشهاد هادي ورفيقيه علي كوثراني وهيثم مغنية.


7

إنه فجر الرابع والعشرين من أيار عام 2000. ساحة الشورى هي الحدث مجدداً. السيّد جالس على كرسي مع مئات المواطنين في انتظار وصول الأسرى الذين كانوا قد حُرِّروا يوم الثالث والعشرين من معتقل الخيام. ينتظرهم كما بقية أبناء المربع لساعات طويلة ويتلقى من مرافقيه أخباراً عن القرى التي كانوا يمرون بها... وصولاً إلى المربع حيث يحتضنهم واحداً واحداً...
بعد هذا التاريخ سيتغيّر مضمون الأناشيد التي تصدح في فضاء المربع: “نصرك هزّ الدني... شعبك ما بينحني...”. نشيد سيصل إلى القرية التي ما عادت محتلة... القرية التي ستعود إليها من دون أن تجد الجدة فيها. ماتت ولم تستطع أن تودعها.
يتسع المربع مع التحرير. وتنتقل ساحة الشورى حيث كان يقف السيّد إلى ساحة بنت جبيل حيث يهدي الانتصار إلى جميع اللبنانيين (بمن فيهم الخائفون من المربع وأهله) ويطالب الشباب المقاومين بالتواضع.
تخرج ابنة الخالة من معتقل الخيام. تلتزم التواضع كما تلتزم حكم الدولة فلا تحكي عن معاناتها جرّاء استمرار رؤيتها لعملاء عذّبوها وزملاءها الأسرى وهم يتجولون في الوطن المتفاخر على بقية الدول العربية بانتصاره على “الجيش الذي لا يهزم”.
لبنان انتصر على العدو الاسرائيلي. وهذا يكفي أهل المربع... تراه يكفي غيرهم؟


8

ربما كان سيكفيهم قبل أن تصبح اللغة خشبية... وقبل أن يُفاجأ أهل المربع بأن من طلب منهم السيّد انتخابهم يتهمونهم بالغدر. غضب شديد يسيطر عليك وعلى الشارع الملتزم بالتواضع، عن غير قناعة بأن الآخر يفهم هذا السلوك تواضعاً، وليس ضعفاً.
يأتي استشهاد ثلاثة مقاومين في مزارع شبعا المحتلة ليغيّر هذا الالتزام. يطلّ السيّد من مجمع سيّد الشهداء في الصفير، ويدعو أنصاره إلى “الإباء” بديلاً من التواضع طارحاًً بأعلى صوته سؤالاً سيردده جيل جديد يكبر اليوم في المربع: “إنت مين؟”. إباء تسلّحوا به في حربهم الأخيرة وخرجوا منتصرين....
نصر لا يقيسونه بحجم الدمار اللاحق بالمربع... ويسخرون من كلّ مشكّك به: “ستالينغراد دمّرت فهل نقول إن روسيا هُزمت؟”



بقايا صور
img src="/sites/default/files/old/images/p9_20060909_pic1.jpg" title="الرسوم أريج محمود" align="center" width="465" height="138"/>
صورتان "ناجيتان" وجدتا بين الأنقاض. الأولى دعوة لزفاف بلال وسهى والثانية تذكارية لأطفال في أحد الصفوف الابتدائية... صورتان ستؤسسان لذاكرة جديدة، وشهادات قد يرويها جيل المربع الأمني الجديد.