نقولا ناصيف
النداء السنوي لمجلس الأساقفة الموارنة برئاسة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير أضحى بمثابة «أمر عمليات» لسنة، من أيلول الى أيلول. حصل ذلك منذ النداء الأول في 20 أيلول 2000 وصولاً الى النداء السابع الأربعاء الفائت (6 أيلول)، ومن خلاله ترسم الكنيسة المارونية موقفها السياسي، الوطني في ظاهره ووجهته، للسياسيين الموارنة الذين يستظلون بكركي. قبل هذا النداء درجت في «حرب السنتين» (1975 ـــ 1976) عبارة «الجيش الأسود» على رهبان الكنيسة الذين ثابروا على رسم ملامح الموقف الماروني وخياراته الوطنية في اجتماعات عمل كان بعضها سرّياً والآخر علنياً في جامعة الروح القدس (الكسليك). وكان بعض هؤلاء يتصرّف في معزل عن بكركي، الوديعة آنذاك والعاجزة عن مواجهة آثار الحرب والصراع على النفوذ بين الزعماء الموارنة.
وعلى غرار سلفيه البطريرك مار بولس بطرس المعوشي والبطريرك مار أنطونيوس بطرس خريش ـــ وقد عمل في ظلهما تباعاً منذ عام 1956 ــــ لم يخرج صفير عن منطق الخلاف بين بكركي ورئاسة الجمهورية. ليس في مسألة رفض التجديد والتمديد فحسب، بل أيضاً في الخيارات السياسية لرئيس الجمهورية. ولم تكن بكركي تتردد في خوض معارك انتخابات رئاسة الجمهورية.
فعل المعوشي ذلك ثلاث مرات: عام 1958 ضد التجديد للرئيس كميل شمعون من غير أن يتحمس لانتخاب الرئيس فؤاد شهاب، وعام 1964 حين رفض التجديد لشهاب وجارى انتخاب الرئيس شارل حلو، وعام 1970 حين عارض المرشح الشهابي الياس سركيس وأيّد المرشح سليمان فرنجيه. في سني الحرب فقدت بكركي المبادرة والتأثير في انتخاب الرئيس وفي منع تمديد ولايته وفي كبح انزلاقه إلى خيارات سياسية داخلية وخارجية كانت الكنيسة المارونية تنتقدها. بعد وقت طويل على انتهاء الحرب، عام 2000، استرجعت المبادرة هذه، وعندما أبصر النداء الأول لمجلس الأساقفة الموارنة النور، لم يكن يومذاك ضدّ رئيس الجمهورية، بل ضدّ المرجعية التي كان الأخير يستظلها، وهي سوريا التي انسحب جيشها من لبنان قبل صـــدور النـــداء الســــادس لمجلس الأســـاقفة.
يومذاك كانت فاتحة الخلاف الأول العميق بين المرجعيتين المارونيتين. بعد ساعات على النداء الأول، ردّ رئيس الجمهورية بموقف كان أشبه بـ«خدعة سياسية» هو أن وجود الجيش السوري في لبنان «ضروري وموقت وشرعي». ثم أتى التمديد للرئيس بعد أربع سنوات ليوقع الشرخ بين الرجلين.
ماذا إذاً عن النداء السابع؟ وهل افتتح البطريرك به معركة انتخابات رئاسة الجمهورية قبل سنة من موعد بدء المهلة الدستورية في أيلول 2007؟
لم يكن الموقف من الرئيس إميل لحود ومن الواقع الذي باتت تتخبّط فيه الرئاسة إلا تكراراً لما كان قد أطلقه البطريرك في عظة عيد الميلاد، يوم 25 كانون الأول 2005، في بكركي، وفي حضور رئيس الجمهورية الذي سمع البطريرك يحضه على تقدير الموقف الذي ينبغي للرئيس أن يتخذه لإنقاذ منصب الرئاسة، فضلاً عن البلاد. قيل يومذاك إن صفير حضّ لحود ضمناً على الاستقالة، وقيل إنه رغب في ترك القرار له ليحدّد خياره سواء بالاستقالة أم بالبقاء، وقيل أيضاً إن موقف البطريرك عكس تفهّم الأسباب التي تحمل رئيس الجمهورية على عدم الرضوخ لما تطالب به الغالبية الحاكمة، وهو تنحّيه عن منصبه.
هذه الاستعادة كرّرها البطريرك في الساعات التالية لصدور النداء السابع في ضوء ما أثاره من أصداء. وقال، على ما ينسب اليه محيطون به، إن موقفه هذا ليس جديداً.
والواقع، تبعاً للمطلعين على موقفه، أن البطريرك يُدرج دوافع تكرار ما قاله قبل 10 أشهر في الآتي:
1 ـــ أن رئيس الجمهورية، عوض أن يلاقي التحرّك الدولي الجامع حيال لبنان وينضمّ اليه توصلاً الى تحقيق سيادته الوطنية واستقلاله، يقف في المقلب الآخر المناوئ لهذا التحرّك بالمضي في تأييد السياسة السورية في لبنان والدفاع عنها، وكأن شيئاً لم يتغيّر في البلاد.
2 ـــ أن المقاطعة التي تتعرّض لها رئاسة الجمهورية في الداخل تُفضي الى إضعافها، ولا يقتصر تأثير ذلك في الدور السياسي للمسيحيين والموارنة وخصوصاً في المشاركة في الحكم، بل أيضاً في مواقعهم في الوظائف والإدارة في شكل يؤدي الى تهميشهم. يتزامن ذلك مع مقاطعة مماثلة من المجتمع الدولي بتجاهله منصب رئاسة الجمهورية.
3 ـــ يميّز البطريرك بين موقفه من الرئيس الحالي كشخص، والحال التي أضحى يعانيها المنصب، مع أن الاتصالات بين الرجلين لا تتعدى منذ آخر لقاء بينهما في خلوة عيد الفصح في نيسان الفائت طابع المجاملة والبروتوكول، كالتهنئة بالعودة من السفر وما إلى ذلك...
4 ـــ لا ترمي استعادة موقف عيد الميلاد الى تقليل أهمية ما قيل، بل تأكيد البطريرك أن مرور الوقت مذّاك ضاعف من الوهن الذي أصاب الرئاسة الأولى، وقد أخفقت في استرجاع دورها في استقطاب الأفرقاء اليها وانفتاح المجتمع الدولي عليها.
مع ذلك، في إشارة ذات دلالة قد تكون جزءاً من ذكاء سياسي باطني تتسلّح به تاريخياً بكركي، اقترنت انتقادات البطريرك للفراغ في الرئاسة الأولى بطرح المواصفات التي يراها في الرئيس الجديد للجمهورية على نحو يجعل تداول الأمرين متلازماً، فلا يكتفى بدعوة الرئيس الحالي الى التبصّر في ما يقتضي أن يقوم به لإيجاد المخرج الملائم قبل استنزاف ما بقي من الولاية الممددة، بل أيضاً في عدم جعل أبواب الرئاسة مشرعة أمام مواصفات عادية لمرشّح عادي. بذلك يفتتح البطريرك الجانب الأخلاقي من المعركة الرئاسية في وجه الطرفين المعنيين بها في الآن نفسه: لحود، والمتهافتين إلى الوصول الى المنصب الى أي فريق انتموا.
وقد يكون مفيداً القول في حال كهذه إن القرار 1559 الذي تحّدث عن انتخابات رئاسية دستورية لا تدخل خارجياً فيها، وخروج الجيش السوري من لبنان ووضع حدّ لازدواجية السلطة بين الدولة والمقاومة، إنما كان يدين بذلك الى الجدّ الأول الذي هو النداء الأول لمجلس الأساقفة الموارنة.