بعد قصري العدل في بعلبك وطرابلس، نستطلع قصر العدل في صيدا الذي أنجزت الدولة الانتقال إليه من القصر القديم حيث وقعت مجزرة القضاة الأربعة عام 1999.
صيدا ــ خالد الغربي

قد لا يُنبئ شكل قصر العدل الجديد في صيدا بمبناه المصمم وفقاً لطراز معماري حديث يعاني من تكدس الملفات والدعاوى بالنظر إلى حاجة “السوق القضائية” في لبنان إلى الرفد بمزيد من القضاة، وكذلك مشكلة النقص في عدد الموظفين والتركيبة الإدارية، وكلها أمور تدفع إلى إعاقة حركة العمل والتأخر في بت العديد من القضايا المرفوعة.
غير أن ما يميز قصر العدل الجديد في صيدا الكائن في منطقة «الوسطاني» الذي دشن قبل أكثر من عامين في احتفال رسمي حضره الرؤساء: إميل لحود، نبيه بري، والشهيد رفيق الحريري أنه مُثقل إلى حد بعيد بالهاجس الأمني ومسكون به، وكذلك التحوط من أي حادث أمني قد يستهدفه، ربطاً بالجريمة الأبشع، وربما الأخطر، التي أودت بحياة القضاة الأربعة: حسن عثمان، وليد هرموش، عماد شهاب وعاصم أبو ضاهر في الثامن من حزيران من العام 1999حين فتح مسلحون مجهولون نيران أسلحتهم الرشاشة باتجاه قاعة المحكمة أثناء انعقاد إحدى الجلسات.
هذه الجريمة طرحت منذ اللحظة الأولى لوقوعها قضية حماية قصور العدل في لبنان، وخلصت إلى اتخاذ إجراءات أمنية مشددة تحمي القضاة والمحامين والمراجعين والموقوفين. كما أنها سرّعت عملية الانتقال إلى قصر العدل الجديد، على الرغم من أن مكانه يقع في منطقة مكشوفة من مختلف جهاته.
فالشارع المؤدي إلى القصر الجديد الذي يحمل اسم القاضي الشهيد حسن عثمان، يحظى بإجراءات مشددة وتدابير احترازية قضت بإقفال بعض المنافذ والطرقات المؤدية إليه ووضع عوائق مادية تعوق قيادة السيارات بسرعة، كما حصر الدخول إلى المبنى المؤلف من ثلاث طبقات في بوابة واحدة بعدما أوصدت البوابات الأخرى. تقوم عناصر من الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي بإخضاع الداخلين إلى تفتيش دقيق لا يستثني أحداً قبل أن تمر مجدداً على معبر إلكتروني مُثبّت عند المدخل الداخلي الذي يفضي إلى القاعات والمكاتب.
في الداخل تطالعك في البهو الواسع صور عملاقة للقضاة الشهداء الأربعة وضعت قبل أشهر معدودة، فضلاً عن خمس صور كبيرة تمثل نعش أحد القضاة الأربعة أثناء إخراجه من قصر العدل القديم يوم التشييع وجملة لافتة تحتها تسأل: “كشف الحقيقة إلى متى؟” أي كشف حقيقة اغتيال القضاة التي حملت بعض قاعات القصر أسماءهم، في خطوة قد تبدو كأنها تعويض معنوي عن تقصيرٍ أبقى الجريمة المروعة طيّ المجهول.
وداخل القصر ثمة غرف لم تُجهز ولم يستفد من مساحتها الرحبة، إما تقصيراً في الجهاز الإداري وعدم وفرة الموظفين، وإما لعدم الحاجة إليها راهناً بانتظار استحداث محاكم جديدة.
وبالإضافة إلى المحاكم والمكاتب والدوائر القضائية، يضم القصر مخفراً لقوى الأمن الداخلي للحراسة ونظارات توقيف حديثة للمحتجزين على ذمة التحقيق تتوافر فيها المواصفات والشروط القانونية المطلوبة. إلاّ أن ما يلفت الانتباه، هو الإهمال غير المبرر في الساحات الخارجية، حيث تنتشر الأعشاب بكثافة على مساحة لا بأس بها، وفي الممرات التي تقودك إلى درج القصر الرئيسي الذي نال حصته أيضاً من الأعشاب النابتة عليه، بينما أشجار النخيل المزروعة في أرجائها ذبلت وتدلت سعفها الصفراء. أما الحديقة الملاصقة ففقدت الحياة ويبست.
خلال العدوان الإسرائيلي بقي القصر بعيداً عن استقبال النازحين الذين تقاطروا على مدينة صيدا، والاعتبارات التي فرضت عدم فتح أبواب القصر أمام النازحين تكمن في مسؤولية حماية الوثائق والدعاوى والتحقيقات والحفاظ عليها. ويقول أحد موظفي قصر العدل، إن المحتويات من ملفات وقضايا لم يصبها أي أذى، كما أن الإجراءات الأمنية حتى في ذروة العدوان الإسرائيلي حمت الملفات من الإتلاف المتعمد أو السطو عليها، ولا سيما أن الحالات التي تكون فيها البلاد تحت تأثير وضع أمني متفجر وخطير عادة ما ينشط خلالها المتضررون من قضايا معينة وأحكام في المسارعة إلى العبث بهذه الملفات، مستفيدين من الأجواء التي كانت قائمة. ويؤكد العديد من الموظفين ورؤساء الأقلام أن “همة” قضائية استثنائية سيشهدها قصر العدل في صيدا حيث تنتظر القضاة ملفات عديدة، بينها ما هو متصل بأحداث أمنية وأعمال مخلة بالأمن سيصار إلى بتِّها وإصدار الأحكام فيها.
أما قصر العدل القديم الذي تشغله الآن قيادة القوة الأمنية الضاربة التابعة لقوى الأمن الداخلي منذ إخلائه، فقد وضعت بلدية صيدا يدها على ملكية العقار الذي يقع عليها بعد عملية تبادل مع وزارة العدل، إذ كانت البلدية السابقة برئاسة المهندس هلال القبرصلي قد ساهمت في تقديم قطعة الأرض من أملاك البلدية لبناء القصر الجديد، وبعد الانتقال إليه طلبت مبادلة عقارها في الوسطاني بالعقار في ساحة النجمة (القصر القديم).
وتتعدد الأفكار بشأن مصير هذا القصر، فهناك تصور بإزالته وجعله مكاناً للعموم والاستفادة منه لتنشيط الدورة الاقتصادية بحكم موقعه الجغرافي، بينما هناك ميل يبدو أكثر رجحاناً يقضي بالمحافظة على القصر لما يمثله من إرث عمراني وتحويله إلى قصر للثقافة.


ترهيب القضاة

في الثامن من حزيران 1999، اقتحم مسلحون مقنّعون قاعة المحكمة أثناء انعقاد محكمة الجنايات وأطلقوا النار، فاستُشهد أربعة قضاة على قوس المحكمة. ولم يكشف عن المجرمين حتى اليوم!