strong>عندما تسمع عبارة «مربع أمني» يتبادر فوراً الى ذهنك «مربع حزب الله» في الضاحية الجنوبية... «ذلك النجم» الذي أزالت معالمه الحرب الاسرائيلية الأخيرة على لبنان. غير ان الحقيقة هي ان «المربعات الامنية» منتشرة في كل المناطق اللبنانية وبشكل خاص في بيروت منذ ان أطلقت «ظاهرتها» محاولة اغتيال النائب مروان حمادة في تشرين الاول 2004، ثم عززها اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فازداد خوف الزعماء اللبنانيين على حياتهم وتعززت الاجراءات الامنية.
على الرغم من أن جزءاً من الاجراءات الأمنية في بيروت قانوني، أدى التمادي بها وبعض المخالفات الى رسم خريطة جديدة للمدينة.
لائحة المربعات واسعة ومتنوعة، بدءاً من المختارة التي يطغى عليها نفوذ «الحزب التقدمي الاشتراكي»، الجنوب الذي يتقاسمه «حزب الله» و«حركة أمل»، زغرتا التي يضبط أمنها زعيمها رئيس حزب «المردة» سليمان فرنجية، أما بعلبك والبقاع فهما من مسؤولية العشائر و«حزب الله». غير ان هذه الظاهرة تتكثف في العاصمة بيروت التي باتت تضيق بهذه المربعات التي يقيمها السياسيون وتشرف عليها عناصر من القوات الامنية بالاضافة الى عدد من مرافقيهم الذين يشكل همهم الاساسي توفير الامن الخاص لزعمائهم، فيما لا يبالي احد براحة المواطنين وانتهاك خصوصياتهم، وذلك خلافاً للقوانين. وتسبب هذه الاجراءات زحمة سير خانقة جراء تغيّر خريطة الطرق واتجاهات السير.
صحيح ان موجة الاغتيالات في لبنان أثارت خوف اللبنانيين، غير ان زعماءنا استشعروا بشكل خاص بالتهديد فاعتبروا ان من حقهم توفير أمنهم الخاص، لكن من يحفظ أمن المواطنين؟ فتعززت مواكب الحراسة والمربعات وغيرها من الاجراءات. لكن ما مدى فعالية هذه الاجراءات؟ وما مدى قانونيتها وتقنيات عملها من جهة أخرى، وخصوصاً أنها تثير مشاكل اجتماعية واقتصادية يعانيها الطلاب وأهالي التلامذة والموظفون وسكان المربعات الذين باتوا يعيشون في سجون صغيرة يحتاج سكانها إلى تصاريح دخول يُعَرّفُون عبرها حراس مبانيهم على أنفسهم.
رجال أمن يقفلون الطرق، مطالبة بإبراز تصريح الدخول، تدقيق في الهويات، كاميرات مراقبة تشتغل ليلاً ونهاراً، رصد لتحركات المواطنين، تسجيل للملاحظات، تأكد من انتماءات الزائرين، تفتيش للسيارات والحقائب... مشهد خارج نطاق المطار أو المرفأ أو إحدى المؤسسات، وخارج حقبة الحرب اللبنانية. أنت في «مربع أمنيمن مربع الـ«نيو بوريفاج» الذي يحمي جريدة «المستقبل» الى «مملكة قريطم» لحماية النائب سعد الحريري، وصولاً الى «محمية كليمنصو» للنائب وليد جنبلاط و«جمهورية عين التينة» لرئيس مجلس النواب نبيه بري و«محافظة حمادة» قرب الجامعة الأميركية في بيروت «AUB»، و«ولاية حردان» في نزلة الـ«بيكاديللي» وغيرها من المواقع... حيث يتكرر المشهد نفسه. إقفال الطرق المجاورة، مظاهر تسلّح، أطواق أمنية، عوائق حديدية... وصولاً الى منع التجول ووقوف السيارات.
لا شك في ان تقسيم المناطق الى جزر أمنية يتعارض مع سلسلة من القوانين التي تدعو الى احترام حرية الافراد وخصوصياتهم. فهي تتعارض، بالدرجة الاولى، مع المادة 12 من «الاعلان العالمي لحقوق الانسان» التي تؤكد انه «لا يتعرض أحد لتدخل تعسفي في حياتهالخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو لحملات على شرفه وسمعته. ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات».
كذلك تشدد المادة السابعة عشرة من «العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية» على هذه النقاط، وتشير الى انه «من حق كل شخص أن يحميه القانون من مثل هذا التدخل والمساس».
وتؤكد المادة الثانية من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الانسان هذا الحق، معتبرة أن «لكل إنسان حق احترام حياته الخاصة والعائلية ومسكنه ومراسلاته» وأنه «لا يجوز للسلطة العامة أن تتعرض لممارسة هذا الحق إلا وفقاً للقانون وبما تمليه الضرورة في مجتمع ديموقراطي لمصلحة الأمن القومي وسلامة الجمهور أو الرخاء الاقتصادي للمجتمع، أو حفظ النظام ومنع الجريمة، أو حماية الصحة العامة والآداب أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم».
وفي هذا الاطار، يفرض السؤال التالي نفسه: الى أي مدى تتطابق الاجراءات الامنية وعمليات التفتيش مع هذه القوانين؟. فالمادة 216 من «قانون الضابطة العدلية ــ 6/9/1990» تنص على أنه «إذا كان المتهم أنثى وجب أن يكون التفتيش بمعرفة أنثى تنتدب لهذا العمل من قبل الشخص المولج بأعمال الضابطة».
والأصل حسب القانون أن «تفتيش الأشخاص عمل من أعمال سلطة التحقيق، وإذا خول الضابط العدلي القيام بهذه المهمة فإنه يتولاها باعتبارها عمل تحقيق يختص به استثناء، ويراد منه البحث عن دليل الجريمة في جسد الانسان أو ملابسهم أو ما يحملونه». ولا يوجد في القانون أية بنود تتعلق بتفتيش الأشخاص من أفراد خارج المؤسسات الأمنية الرسمية.
أما المادة 216 من قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي فتوضح أن «التفتيش قد يدخل في إطار البحث بشأن جريمة محتملة الوقوع، ويعتبر إجراء استدلال. أو يستند إلى علاقة تعاقدية يستخلص منها الرضا به، كحالة التفتيش التي يجريها رب العمل لدى انصراف الموظفين من العمل. أو التفتيش الوقائي الذي يجري في حالة الجريمة المشهودة».
وفي المادة 13 من «التنظيم العضوي لقوى الأمن الداخلي»، تحت عنوان «مهام شعبة الخدمة والعمليات» يرد التالي: «تعنى هذه الشعبة باستخدام القوى وجمع المعلومات واستثمارها، من أجل تحديد النقاط الحساسة والحيوية المفروضة مراقبتها أو حراستها. وفي المادة 126 (المعدلة بموجب المرسوم الرقم /9224/ تاريخ /12/12/2002)، تحدد مهام فوج أمن وحراسة المؤسسات الإجرائية والتشريعية على الشكل التالي:
أ‌ ــ حرس رئاسة الجمهورية: يتولى حراسة مقر القصر الجمهوري، مقر إقامة رئيس الجمهورية، رئيس الجمهورية وأفراد عائلته ومواكبة رئيس الجمهورية أثناء تنقله.
ب ــ حرس رئاسة المجلس النيابي: يتولى حراسة مقر المجلس النيابي من الخارج، مقر إقامة رئيس المجلس، رئيس المجلس وأفراد عائلته ومواكبة رئيس المجلس أثناء تنقله.
ج ــ حرس رئاسة الحكومة: يتولى حراسة مقر رئاسة الحكومة، رئيس الحكومة وأفراد عائلته، مواكبة رئيس الحكومة أثناء تنقلاته وحراسة مقر مجلس الوزراءد ــ سرية حرس الاحتياط: تتولى حراسة المؤسسات الإجرائية والتشريعية غير المشار إليها في الفقرات السابقة.
داخل «مربع قريطم» الذي تحده السفارة السعودية غرباً وأوتوستراد قريطم جنوباً وفندق البريستول شرقاً وشارع اللبان شمالاًً، تقع الجامعة اللبنانية ــ الأميركية والـ«كوليج بروتستانت»، مؤسستان أكاديميتان يعيش طلابها وأهاليهم يومياً مسلسلاً عنوانه «المعاناة» التي تتمثل بمشكلة ايجاد المواقف لركن السيارات وزحمة السير حيث «يعلقون» يومياً لأكثر من ساعة في المكان نفسه. وأقفل شارع «ماري كوري» في شكل كامل أمام سيارات المواطنين، باستثناء سكان المباني الواقعة في نطاقه، والتي يستحصل سكانها من مكتب الأمن في المربع على تصاريح مرور بعد تقديم طلب مرفق بمستندات تعرّف بهم وبممتلكاتهم ونشاطهم إضافة إلى صور شمسية موقعة من مختار المنطقة. وتخضع سيارات أبناء الحي لتفتيش يدوي وآلي فيما تتوزع كاميرات المراقبة في مختلف الزوايا. ويتذمر أهالي كثر من اضطرارهم إلى إعلام مكتب الأمن بأسماء زائريهم قبل وقت، ما يعوق تفاعل العلاقات الاجتماعية بين «سكان المربع» والآخرين. ومقابل سعادة بعضهم بهدوء «قريطمي»، فإن كثيرين، في مقدمهم أصحاب المحال التجارية، يعانون كثيراً من تراجع حركتهم الاقتصادية أو توقفها، ويتحسر أصحاب المحال على زمن كان محيط قريطم ينعم بالازدهار.
أما في عين التينة حيث مقرّ رئاسة مجلس النواب، فالطريق التي تصل فردان بالرملة البيضاء قد تمحى عن خريطة بيروت مستقبلاً على رغم أن فتحها يختصر الكثير من الوقت على المواطنين. وأقفل معظم الشوارع المحيطة بقصر عين التينة، الذي تمتد حديقته الأمنية حتى مجمع الـ”DUNES” غرباً وساقية الجنزير شمالاً وكورنيش المزرعة والرملة البيضاء جنوباً. ويمنع ركن السيارات على جوانب الطرق التي زنّرها رجال الأمن الداخلي والأمن الخاصّ بالعوائق. ويتخوف الأهالي من زحمة السير والمشاكل التي سيسببها افتتاح الموسم الدراسي قريباً في مدرسة الـ«lycée français» التي تقع ضمن المربع.
والمضحك المبكي هو انه على الرغم من اجراءات الامن هذه، الأمان غير متوافر. ويشير أحدهم الى انه سجلت حالات سرقة عديدة داخل المربع، بدءاً من سرقة دراجة نارية وراديو من داخل السيارة وصولاً الى نشل حقائب اليد. فما مدى فعالية هذه الاجراءات؟
واتخذت بعض الاجراءات الامنية في شارع «رياض طه» قرب القصر حيث يمنع ركن السيارات بهدف حماية منزل الوزير السابق محسن دلول، علماً ان الرئيس حسين الحسيني والنائب ياسين جابر يقيمان أيضاً في الجوار. وتقع في هذه المنطقة، وتحديداً في «شارع فيينا»، بناية يملكها آل الحريري وفيها شقة للنائب سعد الدين الحريري وشقيقه بهاء، ما شكل دافعاً لتعزيز الاجراءات بقربها. ويشير سكان هذه المنطقة الى انه خلال الحرب أُقفل المزيد من الطرق وحُوّل السير وخصوصاً لدى توافد عدد من الوفود الأجنبية الى مقر عين التينة. ويقوم «الدرك» بدوريات في الشوارع، وتلفتهم تحديداً السيارات «الغريبة» التي تركن في هذه المنطقة. واذا لم يكن عليها اسم مالكها أو رقم هاتفه، يسألون سكان الحي عنها. وإن لم يتعرف عليها أحد، يتم «قطرها».وفي آخر شارع «بليس» في الحمرا، عندما تصل الى العوائق الحديدية الموجودة في وسط طريق عبور السيارات وتضطر الى المرور يميناً ويساراً بينها، تدرك أنك وصلت الى مبنى «بليس غاردن» الذي يسكنه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة. غير ان اللافت هو ان الاجراءات التي تحيط بهذا المربع بسيطة مقارنة مع غيره من المربعات، كما ان مساحته ليست كبيرة.
وقرب الجامعة الأميركية، يسكن وزير الاتصالات مروان حمادة في الشارع الموصل الى «انترناشيونال كوليدج»، حيث تعرض لمحاولة اغتيال قبل اغتيال الحريري. والطريقان اللتان تؤديان الى كل من البحر ومخفر حبيش مزروعتان بالعوائق الحديدية وحواجز من الإسمنت. واللافت هو ان مساحة هذا المربع كبيرة جداً وتطال شوارع بعيدة عن المبنى الذي يسكنه حمادة. ويواجه زائرو المباني التي تقع في المربع وخصوصاً الـ«كوليج بروتيستان» صعوبات عديدة في ايجاد موقف للسيارات، علماً ان الطرق سالكة. ويضطر التلامذة وأهاليهم إلى السير مسافة 200 متر للوصول إلى مدرستهم أو تحمّل التدقيق في الهويات وتفتيش السيارات اللذين يقوم بهما حراس الوزير مروان حمادة.
وفي نزلة البيكاديللي، يسكن وزير العمل السابق أسعد حردان. وليس بعيداً عن منزله يقع منزل وزير الدفاع السابق عبد الرحيم مراد، في «طلعة تلفزيون لبنان».
وفي هذين الموقعين، تتكرر مشاهد العوائق الحديدية و«منع الوقوف» بكل أشكالها.
واللافت هو ان تحويل الاحياء الى ما يشبه جوار ثكنات الجيش او المقار العسكرية يتم بشكل مفاجىء، وكأن الحياة في لبنان لا تحوي ما يكفي من المفاجآت، حتى تأتي هذه الظاهرة وتفاجىء السكان بتعزيز الحراسة وتشديد الإجراءات التي غالباً ما تتعارض مع مبدأي الخصوصية والكرامة الانسانية. وإن كان كثيرون من أفراد الأجهزة الأمنية المطعمة بعناصر خاصة يتمتعون بأخلاق رفيعة ويتصرفون باحترام مع الأهالي، فثمة مواطنون كثر تعرضوا في أحيان للصراخ والشتم حين حاولوا ركن سياراتهم بعفوية في مكان يفترض أنه ملك عام. وتعرض بعضهم للضرب أو كسرت أمام عينيه آلة التصوير التي استعملها من أجل مشروع جامعي أو تصوير مبنى أو شارع رأى فيهما جمالاً يستحق الحفظ. باختصار، لقد تحول كثيرون، بفعل فوضى قيام المربع الأمني وعدم اعتماد معايير واضحة ومزاجية القيّم على الفريق الأمني، إلى ضحايا احتلال أمني طال حيّهم وشارعهم ومبانيهم، ورقابة لصيقة تتدخل في خصوصياتهم بواسطة أجهزة وكاميرات مراقبة تنتهك حرية المواطنين وسيادتهم على منازلهم وتنقلاتهم.
يواجه طلاب جامعتي الـ«AUB» والـ«LAU» مشكلة قديمة جديدة، هي عدم توافر المواقف لركن سياراتهم. لكن هذه الأزمة زادت إثر الإجراءات الأمنية المشددة ومنع وقف السيارات على جوانب الطرق، بالاضافة الى الحاجة الى بطاقة مخصصة، وخصوصاً في «شارع بليس» المقابل للجامعة الأميركية في بيروت. وتقول سوزان بزاوي، طالبة سنة ثانية في كلية إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية ــ الأميركية، انها تعاني منذ دخولها الجامعة من زحمة سير خانقة تبلغ ذروتها عند الظهيرة بسبب خروج معظم الطلاب من الصفوف وتسابق سيارات الأجرة لاستقطاب زبائن محتملين، «ويزيد الطين بلة قطع الطريق عند قصر قريطم».
طلاب الجامعة الاميركية لا يختلف وضعهم كثيراً عن زملائهم في اللبنانية ــ الأميركية، فهم يعانون من كلفة ركن السيارة في المواقف، علاوة على ان المواقف «بتفوِّل» بعد الثانية عشرة ظهراً. فإذا حظي الطالب بمكان «بكون حظو بيفلق الصخر».
وليد أبو ضاهر، طالب سنة ثالثة في كلية الهندسة الكهربائية، تبدأ مشكلته بالاضطرار للوصول الى الجامعة قبل الساعة السابعة صباحاً حتى يجد مكاناً قريباً من الجامعة وليوفر على نفسة كلفة 3000 ليرة لبنانية يومياً، ولكنه بعد منع الركن في «بليس» أصبح الهّم مضاعفاً. فهو إذا وجد مكاناً قريبلاً فيكون «بآخر المنارة».
باختصار، يؤكد الطلاب أن الوضع بعد منعهم من ركن سياراتهم في شارع «بليس» أوجد مشكلة كبيرة حتى إن رافعة الآليات تأتي يومياً و«تلمّ» السيارات والدراجات النارية. وهذا جزء من مشاكل يومية يعانيها ليس فقط الطلاب في هاتين الجامعتين إنما كل شخص تقريباً وجد في مكان فيه «مسؤول» على اختلاف الدرجات.
(الأخبار)